مقالاتمقالات عامة

هل يغفر الله للملحد؟ .. خالد محمد عبده

لا أعرفُ بأيّ طريقٍ جئتَ اليومَ،

فقد جئتَ ثملاً منذ أوّل الصّباح

وإن تشربْ دم قلبي فلن أتخلى عنك؛

لأنني حصلت عليك بدمِ قلبي

(مولانا الرومي)

يُحكى أن أحد الصوفية جاب الأرض وساح طولاً وعرضًا واختلط بكثيرٍ من المشايخ مثل الذين نراهم اليوم، ولم يجد على وجه الأرض من يمكن أن يكون شيخًا له، ولا وجد في نفسه أن يكون مريدًا لأحد هؤلاء، بدأ الصوفي بتخليد حكاية أسفاره وتجاربه التي خاضها بجسده ولحمه ودمه وفكره، ظنّ أن كتبه قد تريحه من عناء هذا التفكير الطويل، والسفر الكثير، حتى قابل أحد الباعة الجوّالين صباحًا وهو يتدبر في حاله وماذا يمكن أن يصل إليه.

كانت الباعة في مصر منذ فترة خلت حينما يفتحون دكاكينهم يفتحون المذياع على آيات الذّكر الحكيم، على خلاف هذا اللون كان البائع الذي قابله الصوفي، كان هو بنفسه قرآنًا يمشي على الأرض، يتخلّق بأخلاق الله في الرحمة والشفقة والتوسعة على عباده، وكان من عادات هذا البائع أن يبدأ يومه بـ(بسم الله الرحمن الرحيم) وبعد البسملة يقول متوجّهًا إلى خالقه: (نويتُ نفع عباد الله أجمعين) لم يكن ليستثني أحدًا من خلق الله، فالكلّ عياله دون تفريق.

انجذب الصوفي إلى هذا الرجل البسيط، الذي لا تبدو عليه علامات أهل الصورة أو علماء عصره، فلم يكن بجواره أتباعٌ يقبّلون يديه، ولم يكن يجلس متصدّرًا للحديث في كل نائبة أو فسفوسة. سأل الصوفيُّ البائع عن شيء لكن البائع لم ينتبه لكلامه، وطلب منه أن يجلس أولاً ويستريح ويأكل من طعام الطيبين شيئًا ولو قليل، فعل الصوفّي ما طُلب منه فقد وجد الراحة في وجهه وتوسّم خيرًا من بعض كلماته.

وجال بخاطر الصوفي شيئًا مما كان يفكّر فيه ليلاً، فنطق على فوره قائلاً دون ترتيب أو تنميق: ماذا لو بذل الشخص كل ما في وسعه لكي يجد الله ولم يجده في قلبه أو في حياته، هل يُعاقب أو يُثاب؟ هل هو مجتهدٌ وأخطأ وله أجر؟ أم هو آثم من جملة الآثمين؟!

انتبه بعد نطقه أن البائع قد سمع ما قال فاستغفر واعتذر، لكن البائع بدأ في النطق حين صمت الصوفي عن الكلام، وقال: بالطبع لن يُعاقب، فقد بحث ولم يجد، ولم يصل إلى قلبه ما استقر في قلوب الآخرين، وبه آمنوا وعليه استمروا.

الصّوفي: لكن مثل هذا الكلام لا يخرج من فم مسلم من (أهل السّنة والجماعة)!

البائع: نعم، هذا صحيح، فلستُ أعرف من يشملهم هذا الوصف، ولم يبلغني عن الله ما بلغهم.

الصّوفي: الله يقول: إن الله لا يغفر أن يُشرك به. فما بالك بمن لم يتعرف بوجوده.

البائع: ربنا قال ذلك بالفعل، لكنني أقرأها على هذه الصورة إن كان هذا المشرك متقاعسًا عن البحث عن الله، ولم يبذل وسعًا في طلب الحق، واستراح إلى الكسل، وجحد متكبرًا دون أن ينظر، وما حدّثتني أنت عنه أوّلاً من بحث ونظر ووصل إلى قناعة عبر ما أتيح له من دلائل.

الصوفي: لكن الله قال ذلك بشكل عام، ولم يقيّد حديثه كما فعلت أنت!

البائع: ومن هنا أنا نطقت وقرأت وأخبرتك عن قراءتي ولم أقل لك إن ما أقوله يمثّل جميع الحق!

الصّوفي: هل قول الله لنبيه مُحمّد (وقل ربِّ اغفر وارحم) شفاعة من الرسول في حقّ كل من أخطأ؟

البائع: نعم وهي شفاعة في الدنيا قبل الآخرة، فكأن النبي الأكرم منه السلام قال: ربّ تُب عليهم ليتوبوا عن خطئهم فيسعدوا بذلك ويموتوا على الجمال والخير لهم. ومنه قال أحد من أعرفه وأنا في مثل عمرك النبي شافع مشفّع في المصيب والمخطئ فيمن كان على دينه أو فارق نهجه!

الصّوفي: لكنني أعرف أن شفاعة النبي خاصة في من آمن به من قومه، لا عامة في كافة البشر.

البائع: بل هي عامة في حقّ كل من بحث ونظر ووفّى النظر حقّه من جميع البشر.

الصّوفي: ينبغي إذن على كل وليٍّ وشيخ وعالم أن يدعو بالمغفرة والرحمة لجميع الخلائق.

البائع: نعم ينبغي أن يدعو لكل البشر، ولكلٍّ عذره فيما منعه أن يقف فيما أوقف عليه، ولا تغفل يا ولدي عن سعة رحمة ربك، فهو القائل: ورحمتي وسعت كل شيء. ومما روي في الكتب: يخرج الناس من النار حتى يبقى فيها رجلٌ لم يعمل بخير قط! فيخرجه أرحم الراحمين. والرحمة من الله على من وفّى النظر حقّه فضل ومِنّة.

تردد الصوفي على دكّان البائع مرّات عديدة، واستضافه الرجل في بيته، ثم طلب الصّوفي من البائع أن يصير تلميذًا له! وبدأ معه صفحة جديدة في حياته، طوى فيها كل ما سبق، وبعد وفاة الشيخ بدأ في سرد هذه الحكايات وسجّلها في عقد من الجواهر والدرر، مصنّفًا إياها فحكاية ياقوت، وحكاية ماس، وحكاية زبرجد، وحكاية زمرد، وحكاية مرجان، وكانت هذه الحكاية من الكبريت الأحمر.

المصدر 

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يُعْتبر نشر المكتبة العامة له نوعاً من الموافقة على مضمونه.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى