ثقافة وفنون

عرض نقدي لفيلم ميل جيبسون الجديد “هاكسو ريدج”

يروي أحدث فيلم يخرجه ميل غيبسون قصة جندي شارك في الحرب العالمية الثانية، رغم أنه كان يرفض أن يُقْدِمَ على قتل غيره. الناقد السينمائي نيكولاس باربر يبحث في السطور المقبلة ما إذا كان فيلم “هاكسو ريدج” يستحق المشاهدة.

يُشكل “هاكسو ريدج” أكثر فيلم يمثل نموذجاً للأسلوب الفني للنجم ميل غيبسون كمخرج، من بين كل الأعمال التي قدمها من قبل.

فهو يُصوِّر – مثله مثل العديد من الأفلام التي شارك فيها غيبسون، سواء كممثل أو كمخرج – الكثير من قيم المسيحيين المتزمتين، ويتضمن كذلك قدراً كبيراً مما يُعرف بـ”العنف المعوي” كناية عن اكتظاظه بمشاهد الأشلاء والدماء، وإلى جانب هذا وذاك، لا يتسم العمل بأي قدر من الدهاء في العرض أو الرهافة.

بل إن الفيلم يعيد غيبسون إلى فترة شبابه في استراليا؛ فغالبية ممثليه من هناك، وقد صُوِّر في ولاية نيو ساوث ويلز الاسترالية.

ولكن السمة التي خلا منها العمل – من تلك الصفات المُميزة لـ”غيبسون” – هي ذاك الجنون الفني الذي أضفى الحيوية على غالبية أعماله سواء أمام الكاميرا أو خلفها؛ بدءاً من أدائه المفعم بالنشاط في فيلم “ماد ماكس”، وصولاً إلى الحوار العتيق الكلاسيكي الذي تضمنه فيلما “آلام المسيح”، و”أبوكاليبتو”، وهما أخر عمليّن أخرجهما غيبسون.

على أي حال؛ فما من فيلم غريب الأطوار على نحو مبهج ومحفز للذهن من فيلمنا هذا. فربما يكون غيبسون قد بدأ العمل في “هاكسو ريدج”، وهو يشعر بأنه قد هُذِب وعوقب، جراء الفضائح التي تلاحقه منذ خروج “أبوكاليبتو” إلى النور قبل عقد من الزمان.

وكانت قد تراوحت تلك الفضائح ما بين اتهامات تفجرت في وجهه تصمه بالعنصرية ومعاداة السامية، واعتقاله لقيادة سيارته وهو مخمور، بجانب قيامه بدور البطولة في الكوميديا السوداء البشعة “ذا بيفر” من إخراج وبطولة جودي فوستر.

أياً كان السبب، فإن غيبسون أثبت بفيلمه الجديد، أنه لا يزال قادراً على تقديم فيلم هوليوودي ملحمي ومؤثر، يتسم بالإثارة والشناعة، تماماً كفيلمه الشهير “برَيف هارت” أو (قلب شجاع).

ويروي “هاكسو ريدج” القصة الحقيقية لناشطٍ رافضٍ للحرب وذي توجهات سلمية يُدعى ديزموند دوس (يجسد شخصيته اندرو غارفيلد). وقد خدم هذا الرجل، الذي كان ينتمي لطائفة بروتستانتية تُدعى “الأدفنتست” أو “السبتيون”، بجسارة خلال الحرب العالمية الثانية، في إطار سلاح الخدمات الطبية التابع للجيش الأمريكي، رغم رفضه لأن يحمل أي سلاح حقيقي.

ويتتبع السيناريو، الذي كتبه اندرو نايت وروبرت شينكان، هذه النزعة السلمية عائداً بالزمن، إلى واقعة شهدتها الطفولة الرائعة التي عاشها دوس في أرياف فيرجينيا، عندما ضرب شقيقه بحجر في رأسه، ثم ذهب مسرعاً – تملؤه الخشية من أن يكون قد قتله – ليتفقد لوحةً محاطةً بإطار، كُتِبَ عليها “لا تقتل”، وهي إحدى الوصايا العشر.

في مشهد مثل هذا، هل ترى عزيز القارئ ما أعنيه بحديثي عن انعدام وجود براعة فنية أو رهافة في ذلك العرض الفني؟

عاملٌ أخر يُظهره الفيلم وقد دفع دوس الشاب للمضي على الدرب السلمي، ألا وهو تحول والده (يجسد شخصيته هيوغو ويفينغ) إلى مدمنٍ للمشروبات الكحولية، بعدما فقد أصدقاءه خلال الحرب العالمية الأولى، ليصبح في حالة مزرية، يجسدها لنا العمل عبر تصويره للأب، وهو يجرع الويسكي بإفراط في مقبرة لقتلى الجيش.

Image copyrightGETTY

Image captionيلعب الفنان اندرو غارفيلد دور البطولة في هذا الفيلم

أما الحياة الرومانسية التي عاشها دوس فقد صوّرها الفيلم بأسلوب أكثر تقليدية وكلاسيكية. فمنذ اللحظة الأولى التي لمح فيها هذا الشاب ممرضةً فاتنة (تجسد دورها تيريسا بالمر)، وهي تتألق كالملاك في زيها المُحكم التفصيل أبيض اللون المغسول بعناية، بدا واضحاً لنا كمشاهدين، أنها ستثبت في نهاية المطاف، كونها مثله تماماً في الإخلاص والحب والطهر.

وعندما يستمع المرء لإحدى عبارات التودد التي يتضمنها الفيلم، وهي تلك التي تخاطب فيها هذه السيدة حبيبها باسمه الكامل قائلة له “هل ستساعدني يا ديزموند دوس؟”، يبدو من المؤكد أن هذين الحبيبيّن صغيريّ السن قد باتا مرتبطيّن ببعضهما بالبعض. وفي ضوء كل ذلك، لن يكون من قبيل القسوة المفرطة أن نُطلق على الفيلم اسم “ريدج المبتذل” بدلاً من اسمه الأصلي.

اللافت أن الفيلم يُبقي على طابعه هذا، دون أن يتطور كثيراً على مستوى الصنعة السينمائية، حتى بعدما يلتحق دوس بالجيش ويلتقي برفاقه الجدد في معسكر التدريب.

أحدهم راعي بقر يُعرف باسم “تيكس”، نراه في أولى مشاهده على الشاشة، وهو يستعرض قدراته في الإمساك بالماشية والجياد، عبر استخدام حبلٍ ذي أنشوطة.

رفيق آخر يتمثل في صف ضابط يتولى تدريب المجندين على المهارات العسكرية الأساسية (يقوم بدوره فينس فون). ويُظهره الفيلم، وكأنه قضى في صفٍ دراسي لتعلم مهارات التمثيل الهزلي المرتجل، ذات الوقت الذي قضاه في ساحة القتال، وهي الصورة التي يظهر عليها أي صف ضابط يتولى تدريب المجندين، في كل الأعمال السينمائية.

غير أن هذا الجزء من الفيلم لا يخلو – رغم سخافة عرضه لمشاعر شخصياته – من طابعٍ مسلي وممتع ومفعم بالحيوية تصطبغ بها أحداثه. كما أنه يثير بعض الأسئلة الجديرة بالاهتمام من قبيل: هل يستحق دوس أن يكون في ساحة المعركة إذا لم يكن عازماً على أن يحمل السلاح في أي وقت على الإطلاق؟

وهل سيعرض رفاقه للخطر إذا لم يكن بمقدوره الدفاع عنهم؟ وكيف يمكن أن تتماشى المبادئ السلمية التي يتبناها هذا الشاب مع علمه بأن رفاقه من الجنود سيذبحون أكبر عدد ممكن يستطيعون ذبحه من جنود العدو؟

“مجزرة لا هوادة فيها”

لن نلبث على أي حال أن نعرف إجابات هذه الأسئلة. فبعد نحو ساعة من بدء الفيلم، يصل ديزموند دوس ورفاقه إلى منطقة “هاكسو ريدج”، الواقعة في جزيرة أوكيناوا اليابانية، والتي استُوحيّ منها اسم العمل.

هناك كان عليهم تسلق الواجهة الصخرية لجرفٍ شديد الانحدار، قبل أن يتحركوا بسرعة شديدة صوب الجنود اليابانيين المنتظرين لهم، عابرين قِفاراً خربتها القنابل وتغطيها سحب الدخان.

ما أعقب ذلك ربما لا يشكل المشهد الأفضل الذي يُصوّر المعارك على شاشة السينما، ولكنه بالتأكيد أكثر مشهد نرى فيه تحول وجوه وأطراف الجنود إلى ما يشبه اللحم المفري النيء.

Image copyrightGETTY

Image captionتجسد الممثلة تيريسا بالمر دور الممرضة التي أحبها بطل الفيلم

ويفيد مشهدٌ مثل هذا، بما يظهره من مجازرٍ تُرتكب بلا هوادة وأشلاء متطايرة في كل مكان، ليس في ضخ الأدرينالين في عروق مشاهديه فحسب، وإنما في إيضاح مدى الجسارة التي يتسم به تمسك ديزموند دوس بنزعته السلمية وسط كل ذلك.

وفي مشهد مطولٍ لاهثٍ، يندفع دوس مُراوغاً الجنود اليابانيين، عبر شبكة مُكتظة بما يشبه جحور الأرانب، وهي هنا عبارة عن أنفاقٍ مظلمة. في هذه اللحظة، تنتابنا رجفةٌ حقيقية ناجمة عن علمنا، بأننا نشاهد – في هذه المرة وحدها على الأقل – بطلاً لأحد أفلام الحركة، لا يستطيع الاستعانة بخنجرٍ أو مسدس للدفاع عن نفسه، وليس بمقدوره حتى لكم مطارديه في وجوههم.

كل ما لديه لا يعدو سوى مواصلة الفرار. ليظهر جلياً أنه صاحب قلب شجاع بحق، وليس جباناً كما اتهمه بعض رفاقه. اللافت أن هذا الاكتشاف يأتي حتى قبل أن نراه وهو يجازف بحياته مرةً تلو الأخرى، لكي يتمكن من سحب زملائه من الجنود الجرحى بعيداً عن الخطوط الأمامية، والعودة بهم إلى حيث مأمنهم.

وبعيداً عن هذا الطابع الجديد والفريد الذي يكسو العمل، باعتباره فيلماً حربياً يتناول شخصاً ذا نزعةٍ سلمية رافضةٍ للحروب، وبعيداً كذلك عن حقيقة أن أحداثه اللافتة والرائعة حدثت بالفعل؛ فإن أحداث “هاكسو ريدج” تبدو متوقعة في مجملها. فلا التباس أو تشكيك في قناعات ديزموند دوس. كما أنه لا تعقيد في شخصيته، أمريكية الطابع مئة في المئة والتي لا تشوبها شائبة.

ورغم أن أي مخرج آخر كان سيقدم – بالتأكيد – هذا الفيلم، على نحوٍ أكثر ذكاءً وبشكلٍ ينطوي على المتعة والتحدي والإثارة في آن واحد، فإنه لم يكن هناك من سينجح في تقديم العمل بنفس درجة الصدق التي تمكن مخرجه ميل غيبسون من الوصول إليها.

وفي ضوء الطابع النمطي الذي يصطبغ به “هاكسو ريدج”، فقد نجح في أن يستوفي معايير القبول والنجاح، نظراً لحرصه الكامل على عدم السخرية من بطله الذي يبجله ويحتفي به. وهنا يبدو أن توقير غيبسون للجنود وللمسيحيين المتزمتين على حد سواء، يتمثل في إيمانه بضرورة نزع السلاح والنزوع للطابع السلمي.

مع ذلك، فقد كان العمل ليصبح أفضل حالاً، إذا لم يكن أشبه بسردٍ مُبالغٍ فيه لسير القديسين، في تعامله مع قصة حياة بطله. فطيلة أحداثه، لم يضرب ديزموند دوس سوى شيء واحد ليبعده عنه، ولم يكن ذاك سوى قنبلة يدوية أُلقيت صوبه.

لكن مشاهدتنا له بعد ذلك مباشرة، وهو يُجبر قنبلةً أخرى على تحويل اتجاهها بعيداً، بركلة مارادونية الطابع، بدت تذكيراً لا لزوم له تقريباً، بشخصية “الرجل العنكبوت”؛ أشهر الشخصيات التي جسدها غارفيلد من قبل.

المشكلة أن مشهداً مثل هذا بدا لا طائل من ورائه، فقبل أن نصل إليه، كنّا من الأصل قد بتنا مقتنعين – من خلال أحداث العمل – أن ديزموند دوس بطلٌ لا مراء في ذلك، لذا لم يكن هناك من مبررٍ لتصويره على أنه بطلٌ خارقٌ كذلك.

المصدر

هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يُعْتبر نشر المكتبة العامة له نوعاً من الموافقة على مضمونه.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى