رؤيتى لـ «القرن الحادي والعشرين» ( 51) الرشدية اللاتينية – مراد وهبة
يبدو أن ثمة تناقضاً بين عنوان هذا المقال والعنوان الرئيسى لسلسلة مقالاتى السابقة وهو رؤيتى لــ «القرن الحادى والعشرين». فالرشدية اللاتينية من القرن الثالث عشر. ومن هنا يثور السؤال: ما علاقة الرشدية اللاتينية بالقرن الحادى والعشرين؟
وأظن أن الجواب يشى بالإيجاب وإلا ما كان ثمة مبرر لصياغة عنوان المقال. ومن هنا أيضاً يثور السؤال: إذا كان ذلك كذلك فهل هى مؤثرة فى هذا القرن.ورد إلى ذهنى هذان السؤالان عندما تسلمت دعوة من رئيس جامعة ألكالا بمدريد للمشاركة فى مؤتمر دولى ينعقد فى مايو 2002 تحت عنوان «الإنسانية اللاتينية والإسلام». وقد يبدو العنوان غريباً إذ ما العلاقة بينهما؟الرأى الشائع أن الانسانية اللاتينية حركة فكرية تنطق باللغة اللاتينية. نشأت فى أوروبا فى القرن الرابع عشر فى إيطاليا وفكرتها المحورية تحرير العقل الإنسانى من ظلمة العصور الوسطى التى كانت تدور حول تحكم ما هو إلهى فيما هو إنسانى فلا يبقى سوى الحياة وبؤسها. وكان للحركة من القوة بحيث أحدثت تأثيراً على نشأة الإصلاح الدينى والنهضة و على التنوير و على العقلانية العلمية منذ القرن السادس عشر حتى العشرين حيث ظهر دارون و بلانك وفرويد: الأول فى علم الأحياء والثانى فى علم الفيزياء والثالث فى التحليل النفسي. وهؤلاء العلماء الثلاثة تأثروا بعبارة مأثورة من القرن الرابع قبل الميلاد لبروتاغوراس مفادها «الإنسان مقياس الأشياء».ومع ذلك كله فأنا أثير السؤال الآتي:متى نشأت « الإنسانية اللاتينية»؟نشأت فى القرن الثالث عشر.والسؤال إذن:ما الدليل؟فى ذلك القرن كان فردريك الثانى هوهنشتاين ( 1197- 1250) يقف ضد رجال الدين والنبلاء ويدعم الطبقة الصاعدة وهى طبقة التجار وأرباب المهن والتى نشأت حول القصور الاقطاعية فنصحه مستشاروه بإصدار مرسوم بترجمة مؤلفات ابن رشد لأنها تستجيب لمناهضة النظام الإلهى كنظام سياسى تسانده الكنيسة الرومانية، وقد كان، إذ ترجمت تلك المؤلفات إلى اللاتينية والعبرية فيما بين 1217- 1230، أى بعد أقل من عشرين عاماً من موت ابن رشد. وكانت فلسفة أوغسطين هى السائدة فى زمن الترجمة، وهى تستند إلى القول بأن الانجيل هو المصدر الوحيد للحكمة، والحكمة هى أساس علم اللاهوت، وهذا العلم بدوره يستمد سلطانه من الله. وهكذا يكون الله هو البداية والنهاية. ومن هنا ارتأى أوغسطين أن تكون الدولة خاضعة للكنيسة، والعقل خادم للإيمان، والفلسفة تابعة للدين، وفى النهاية تصبح الدولة خاضعة لله. ولكن إثر ترجمة مؤلفات ابن رشد أثير السؤال الآتى فى مواجهة الأوغسطينية وهو على النحو الآتي:هل التفلسف عقلياً مشروع؟كان جواب ابن رشد أن ثمة صراعاً خفياً بين الشريعة والفلسفة إلى الحد الذى تبدو فيه الفلسفة غريبة عن الشريعة. ومن هذه النقطة بدأ الالتفات فى أوروبا إلى ابن رشد، بل بدأ التأثر بجوابه. وكان هذا التأثر واضحاً عند مؤسس الرشدية اللاتينية سيجير دى بربان عندما بحث العلاقة بين العقل والوحى فارتأى أن العقل قادر على معرفة الطبيعة وهى معرفة يقينية بدون اعتقاد. أما الوحى فيخبرنا عن حقائق فائقة للطبيعة وخارجة عن نطاق العقل وهى موضع اعتقاد وليست موضع يقين. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن العقل مواز للوحى فلا سلطان لواحد على الآخر لأن الخلط بين السلطتين يفضى إما إلى الشك فى العقل وإما إلى إنكار الوحى.ومن شأن هذا الرأى لبرابان أن يكون مهدداً للسلطة الدينية. ومن هنا أوعزت هذه السلطة إلى فيلسوفين من فلاسفة الكنيسة الرومانية وهما البرت الكبير وتوما الأكوينى بمهاجمته. وكانت النتيجة قتل دى برابان بخنجر من سكرتيره الخاص. وفى عام 1270 أدان أسقف باريس ثلاث عشرة قضية خاصة بالرشدية اللاتينية ومن أهمها أن ليس ثمة إنسان أول وأن النفس تفنى بفناء البدن وأن الله لا يعلم الجزئيات وأنه لا يعرف إلا ذاته.وعلى الرغم من التحريم الكنسى للرشدية اللاتينية إلا أن تأثيرها الإيجابى لم يتوقف فقد وضع دانتى ابن رشد بين الوثنيين الفضلاء، وأنت تقرأ رسائل جاليليو إلى الكونتيسة الهولندية كريستينا فكأنك تقرأ كتاب ابن رشد المعنون « فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال» حيث يقول ابن رشد «إن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له» وهو يقصد بذلك الدين والفلسفة. وعلى غرار هذا القول يقول جاليليو إنه «لا تعارض بين حقيقتين. فثمة توافق بين كوبرنيكس القائل بنظرية دوران الأرض وبين الانجيل». وكان الفيلسوف الهولندى سبنوزا مولعاً بقراءة مؤلفات ابن رشد. وتأثر الفيلسوف الألمانى العظيم بابن رشد عندما قال « كن جريئاً فى إعمال عقلك، وقف ضد الكاهن عندما يقول لك لا تبرهن بل آمن». وهو قول مرادف لقول ابن رشد « على الفيلسوف أن يكون جريئاً لأن من ليس جريئاً يصبح عاجزاً عن احتقار الحجج غير البرهانية التى تربى عليها».خلاصة القول أن فلسفة ابن رشد كانت موضع صراع بين الرشديين اللاتين من جهة وفلسفة السلطة الدينية من جهة أخرى، أو إن شئنا الدقة قلنا إنه صراع بين التنوير وأعداء التنوير. خلاصة القول أيضا أن ليس ثمة تيار فى العالم الإسلامى يمكن أن يطلق عليه « الرشدية العربية وذلك بسبب تحكم ابن تيمية منذ القرن الثالث عشر حتى الآن. ومن هنا يمكن القول إن العالم الإسلامى « الآن» يعيش فى ذلك القرن أما أوروبا فتعيش فى القرن الحادى والعشرين، وهذه هى «مفارقة ابن رشد: إنه حى فى الغرب ميت فى الشرق».