مقدمة
تفرض مشاغل الحياة والعيش علينا الكثير من الواجبات التي تقضي على العقل، وتبعده عن مجاله – التفكير – الذي يقبع داخله الهدف الأسمى للإنسانية، فواقعنا..ديننا .. وطننا..أمتنا هي أيضا تفرض لنفسها مكانة كبيرة وتشغل حيزا أكبر في تفكيرنا، لهذا نحن نحاول – في كل ما تحمله طاقتنا داخل كلمة المحاولة – لإصدار سلسلة أشبه ما تكون بموسوعة، تتضمن تحقيقات فكرية، ومتابعة للواقع، من خلال مساءلة الفكر السياسي الإسلامي، فيما حققه من إنجازات؟ وأين وصل في قضاياه ومشكلاته؟ وأين انتهى مصبُّه؟ وهل هو قابل للتجديد؟ فإن كان بنعم، كيف نقوم بذلك؟
قبل الخوض في غمار هذا النقاش يجب بداية أن نضع لمسة واضحة تبرز معالم هذا المشروع، حيث أنّ هذه السلسلة هي الأولى والفريدة من نوعها ولم يكن لها سابقة، لهذا أنا أحاول بجدية مع الإستعانة ببعض الخبراء في هذا المجال والذين لهم عقول مصقولة تسهر على تحقيق هذا الحلم الذي يراودني ويراود جميع المسلمين في تنقية موروثنا من الشوائب، ذلك أن الرجوع للأصل فضيلة…
تستهدف هذه السلسلة ببساطتها كل الفئات التي لها شأن ولها همة ولها روح إسلامية، وتغار على جغرافيتها ومعتقدها وحقوقها وموروثها…مدونة بلغة بسيطة يفقهها القاصي والداني..
أليس من أهم واجباتنا في هذا العصر المتأزم أن نكشف عن هويتنا الإسلامية الحقيقية وتنقيتها من الزيف والفبركة؟، وهذه الهوية لا يمكن أن يتم كشفها إلا عن طريق الرجوع إلى القاعدة التي تأسس منها، والواقع الذي خرج من رحمها، وتكون في حضنه، والفكر السياسي العولمي المعصرن هو أحد العوامل المساعدة على ذلك، فهو عامل مساعد على بناء هويتنا الجديدة من خلال إعادة رسم خط إنطلاق جديد، يسعى في نهايته إلى العودة للإسلام الكوني السمح المعتدل، وإلى النهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعدول من كل عصر، عن طريق العودة لذات الإسلام الحقيقي، وموضوعه العقائدي، في بناء مجتمع كوني متكامل كما هو موضح في دستور المسلمين المتمثل في القرآن…
لهذا كانت الإنطلاقة الأولى هي محاولة لتبسيط مفهوم الفكر ، لوضعه في إطاره الخاص، وتصنيفه، ومن ثم الإنسياق وراء جوهر الموضوع، ألا وهو الفكر السياسي من خلال الإجابة على التساؤلات التالية: ما هو الفكر السياسي؟ وما دوره؟ وكيف نميزه؟ ولماذا ندرسه؟
إن الفكر من منظوره التفاعلي الجدلي يلاحظ متتبعُهُ أثر المتغيرات البيئية المادية الطبيعية منها والإنسانية الإجتماعية في تكوين أفكار حضارة ما وتطورها وتغيرها انطلاقاً من هذا وجدنا أن لا بد من الإيمان بأن الأفكار لا تولد من فراغ ولا تنمو أو تمارس أدوارها في فراغ.
وربما قيل الكثير جدا في الجامعات اليوم عن الفكر المحصور – النظري – وعن مدى الإثارة التي يجدها الإنسان عندما يفكر، ولا ريب أن التفكير يؤدي إلى الرضى، غير أن هذه المشاعر لا تفصح عن طابعها العام؛ وهناك شيء خاطئ للغاية في فكرة أنها ينبغي أن تعقل ذلك؛ فنحن لا نفكر من أجل أن نمتع أنفسنا بل من أجل أن نفهم الحياة، التي تثير القلق والحافلة بالمشاكل؛ يجب أن نفهم ونبعث بهذا الفهم لأبنائنا وطلبتنا وإخوتنا وكل إنسان على وجه الأرض، أننا نفكر لأننا مضطرون إلى ذلك، وفي حين أن التفكير يجلب أحياناً اكتشافات مثيرة، فإن الفترات بين هذه الإكتشافات يحتمل أن تضع مطالب ثقيلة على طاقة المفكر وصبره، وعندما نفكر فإننا ينبغي ألا نكون في حاجة لأن نقول لأنفسنا أننا نمر بتجربة مبهجة، بل يكفي أن ندرك أننا نتصرف بجدية وعقلانية وضبط للنفس يتطلبها الموقف الإنساني منّا .
إن الدرس الذي يجب أن نتعلمه نحن المسلمون من غلين تيندر، والذي كان من المفترض أن نكون أولى الناس به، هو ما ذكره في كتابه ” الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية” حين قال : ” …وخلال التفكير السياسي عليك أن تتوقف بين حين وآخر لكي تسأل نفسك”، عن ماذا يا ترى نتساءل؟ فيجيبنا قائلا: ” عن كيف ترى الطبيعة البشرية، وما هي التضمينات التي لهذا الرأي على أفكارك السياسية؛ إنك قد تعتقد أن التساؤل بهذه الطريقة على الطبيعة البشرية هو بمثابة مواجهة لغز أكثر إظلاما حتى من تلك التي تواجه على مستوى التأمل السياسي؛ غير أن هناك قضيتين تطغيان على هذا المجال، رغم التعقيدات اللامتناهية للطبيعة البشرية، فإنك قد تبدأ عملية الفكر بمحاولة الإجابة على هاتين القضيتين؛ وإحدى القضيتين تتعلق بمدى وأصول الشر في الكائنات البشرية: هل نحن أشرار إلى حد عميق لا علاج له؟ أم أن الشر مجرد جانب سطحي يمكن إزالته عن شخصيتنا؟ أما المسألة الثانية – وهي معترف بها بشكل عام أقل من الأولى هذه الأيام – فإنها تتعلق بمعنى الموت: فهل يزول الفرد كلية بالموت؟ وهل يتطابق تعبير الحياة الأبدية مع أي شيء يمكن أن نجربه فعلاً؟
إنّ إجابتك على المسألة الأولى سوف تحددها إلى حد كبير أفكارك عن بعض المسائل، مثل: ما هو مدى الحرية الذي يجب أن يمنح للناس؟ وإلى أي مدى يكون التقدم التاريخي ممكناً؟ وما هي درجة العنف اللازمة لإحداث التغيير؟ أما إجابتك على المسألة الثانية فسوف تحددها بوجه عام فكرتك الكلية عن الغرض من الحياة؛ فإذا كنت تعتقد أن الموت هو فناء تام، فإنك يجب أن تدعوا الناس بطريقة ما ( إذا استخدمنا كلمات نيتشه) إلى أن يكونوا ” مخلصين للأرض” وإذا لم تكن تعتقد أن الموت فناء، فإنك يجب أن تعتبر السياسات الدنيوية شيئا هاماً إلى الحد الذي تساعد به أو تعرقل الناس في تفسير علاقاتهم بالأبدية” .
أسئلة تدخل نطاق الفلسفة، لكنها في حقيقتها فكر منير، يبعث في الإنسانية التفكير حول مجالات خلقنا في الدنيا، إن الله لم يخلقنا لنعبث بهذه الحياة، ولم يخلقنا لكي نقتتل فيما بيننا، ونصنع السلاح للحروب، ونحن كمسلمين نعلم جيدا الإجابة الصريحة، ونعلم جيدا لماذا خلقنا الله في هذه الحياة، ولكن للأسف لم نترك لأنفسنا تأملا حقيقيا لندرك مدى أهمية الإجابة، وبما أننا قد إنحرفنا كثيرا في هذا العصر عن الإسلام الحقيقي، فقد وجب طرح هذا التساؤل ضمن الفكر السياسي، لأنه المجال الوحيد الذي يجب أن يحمل في طياته مثل هذا التساؤل، والبحث في الحرب والسلام، في تنظيم المجتمعات من الداخل والخارج، وفي غايات هذه التجمعات، لأنه لو فكرنا قليلا لوجدنا أن هذه التجمعات ليست كلها بحاجة لنظام، أو خلافة، أو ملك أو غيرها، فقد يكون هناك تجمعات لا تصلح فيها القيادة، ولكن في الأعم والمقصد في هذا البحث هو الإجابة على التساؤل حتى ولو لم يكن مثل ذلك، فلا بد من وجود تنظيم لهذا الصنف من المخلوقات البشرية/الآدمية، يتناسب وأفكارهم وواقعم ليصب في قالب واحد، ويسير نحو طريق موحد.
ولسنا هنا في موضع التغافل والتجاهل عن بعض الأفكار الشائكة كما فعل البعض، بل نحن هنا للتحقيق في الأفكار والتساؤلات مهما كان نوعها، وعلاقتها بالواقع، وهل هي من صميم الواقع أم هي مجرد خيالات يوتوبية طموحة؟ هل نحن لسنا في وضع لكي نعرض، على الأقل، بعض التخمينات التي تتعلق بطبيعة ومصير الأشخاص للخطر، في حين أننا نحن أنفسنا أشخاص، هل نستطيع أن نعيش بدون أن نقدم بعض الإفتراضات.. أليس من الأفضل أن نضعها في العراء، ونستخدم العقل لبحثها والواقع لمقارنتها؟
ولكن كيف نحكم على حقيقة أفكارنا؟ إن هذا السؤال لا يمكن توجيهه عن أفكار تتعلق بالطبيعة الإنسانية فحسب، بل عن أفكار سياسية بصفة عامة، فكيف نستطيع أن نختبر صحة فكرة تروق لنا لنعلم حقيقتها؟
يقول غلين تيندر: ” هناك بعض المعايير والاختبارات الشهيرة: إن الفكرة يجب أن تكون متمشية مع أفكار أخرى نعتنقها في نفس الوقت، ويجب أن تفسر، أو على الأقل تكون متفقة مع كل الحقائق الثابتة التي تتصل بها؛ ولكن حتى الإستخدام الأكثر مراعاة للضمير والنزاهة لهذه المعايير لن يقودنا بعيدا جدا، فهي لن تستطيع أن تقودنا إلى دليل في ميدان النظرية السياسية، بل إنها على الأرجح لن تؤدي إلى حياة ومعنى، وقد تكون مجموعة من الأفكار متماسكة ومتوافقة داخلياً مع كل الحقائق المعروفة، ولكنها تبقى ميتة ولا فائدة منها، ولتعلم التعرف على الحقيقة، يحتاج المرء إلى أن ينظر وراء هذه المعايير العادية – ولكن ليس نحو أية معايير أخرى، بل نحو فكرة التمام والتكامل الموجودة ضمناً في المعايير القياسية؛ ولن تكون الفكرة حية ومهمة إلا طالما كانت تضعنا في علاقة مع أنفسنا ومع الواقع، وطالما كانت تجذب الأشياء معاً؛ إن ما تدل عليه معايير التماسك المنطقي والدقة الواقعية، ضمناً، هو ألاّ يتم كبح أي شيء، أو تجاهل أي شيء، فالفكرة لها وظيفة توسيع ودمج العلاقات؛ ومن ثمَّ فإن الفكرة التي تدعونا إلى تجاهل أشياء نعرف أو نؤمن بعمق أنها صحيحة، يجب أن يحكم بأنها زائفة، أو على الأقل غير كافية – إذ أن لها تأثيراً محطماً للتجربة والوجود، والفكرة الصحيحة هي التي تساعد على جعل الشمول والوحدة حقيقة واقعة” .
والفكرة كما سبق وقلت لم تأتِ من فراغ، بل هي واقع مُعاش، وبالتالي وجب علينا قراءة واقع كل فكرة وتفسيرها وقراءة بيئتها كبداية للفهم، متخذين من التاريخ كحقيبة لرصد التطور الفكري في هذا المجال، والعوامل التي دفعت بكل مفكر إلى إنتاج أفكاره كبداية لصنع الواقع، ونتيجة لتلك الأفكار وتفاعلها مع الواقع، وصولا إلى واقعنا الذي يتطلب فهمه فهم كل عصر على حدا، وبالتالي سينزح هذا الواقع ويرضخ للتغير رغماً عن أنفه، لأنّ الأفكار الخلاقة كما يقول علي حرب: ” لا جنسية لها..وأنها ليست سوى علاقاتنا بالواقع والحقيقة”.
ولكي نتمكن من كل هذا، رغم أن السؤال عن الأفكار/ الفكر هو أشبه بالحديث عن شيء زئبقي لا تستطيع العقول أن تقبض عليه، إلا أننا يمكن أن نحصره في مجال معين، كالفكر السياسي، أو الفكر الأدبي، أو الفكر الإقتصادي..، والفكر هنا لا ينحصر إلا بين شيئين يكمنان في العقل والواقع، فالإنتاج العقلي الإنساني خلال عصر من العصور سوى كان ذلك من ماضٍ أو حاضر أو البحث في المستقبل، هو إنتاج لواقع ما، إما تفسيرا له، أو بناءاً عليه، وللحصول على الإجابة الكبرى، نطرح التساؤل التالي كمدخل لهذه الموسوعة: لماذا الفكر السياسي؟
ثلاثية الحرية… الفكر والتفكير والإنسان
رغم الإهتمامات الفكرية القليلة جدا التي تتناول كونية الإنسان، وتهتم بشؤونه، إلا أنه بقي هذا الكائن محور العالم الذي أعطي له، وكان عليه أن يحوله بعمله؛ في هذه الرؤية للواقع، رأى الإنسان أن الله خصه بحرية أصيلة وأوكل إليه مشروعا أخلاقيا وهو أن يسيطر على الطبيعة ويعطيها معنى، ويسيرها بحسب مقاصد الله والإنسان بما عند هذا الأخير من ذكاء وحكمة، لأنه الكائن الفريد الذي يتمتع بكرامة جديدة ..
قال تعالى: [وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] 30 – سورة البقرة
قال تعالى: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] 72 – الأحزاب
وليس أكبر برهانا عندنا من هذا القرآن والبيان الرباني للإنسان الذي يقطن المعمورة، وبعد أن أهمل أمانته، عم الفساد وإنتشرت الخرافات، وتكالبت السلطات الزمنية والدينية، فأصبحنا نملك وساطات بين الإله المعبود والعبد، وبين الرئيس والمرؤوس، ليذل الإنسان على غير مذلة الفطرة، ويزول الإيمان هباءا منثورا..
إن ما نأسف عليه حقا في هذا الزمن الذي إعترانا بالحروب الشائكة، وتقسيم الأمة إلى فسيفساء من فرق ودويلات قومية، و الفصل بين الدين والسياسة، هو خيانة تلك الأمانة، لهذا لم يتبقى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أشخاص، كل يعمل على شاكلته، وكل يدعوا إلى دينيه لوحده، ويفرض علينا تبني أفكاره الخاصة، ولعل قصة المهدي وأرمجدون، والمؤامرة الكبرى والكثير من التفاهات التي ندعي اليوم بحقيقتها ما هي إلا نتيجة لذلك..
لهذا إنتشرت الخرافات من قبل رجال الدين المزيفين، وإستشرى الفساد من إستبداد السلطات الحاكمة، ووجب علينا نحن المسؤولون عن هذه الأمة ومصيرها أن نبدي دورنا في إنارة هذه الشمعة بعد كل هذا الظلام، أليس إضاءة شمعة واحدة أفضل من لعن الظلام؟
يجب علينا تنقية هذه الأفكار من تلك الخرافات لنعود إلى ذلك الزمن الذي رفع فيه الأعرابي صوته على الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين أخبره بأنه لو أخطأ في حقهم سيقومه بسيفه لا بلسانه، لأنهم أدركوا أن الحق لا يمكن التغافل عنه، وأن الخلافة ليست إمتلاك سلطة بل هي رعاية شؤون الأمة والسهر على راحتها وتحقيق رفاهيتها، وشتان بين الأمس واليوم..
وأصعب ما يواجهه إنسان اليوم ليس أن الحقائق أصبحت غامضة، بل أصبح تزييفها بما لا يمكننا بعد إثباتها، والبرهنة على صحتها لأن الخرافات التي نؤمن بها اليوم لم تأتي من عصر اليوم، بل هي أتت عن طريق النقل من جيل لجيل، حتى آمنا بها، لأننا لم نملك ما يثبت خطأها بعد، ولعل هذا يذكرنا بموقف من يزعم أن هناك نجماً يسكنه جنس من الحمير يتكلم اللغة الإنجليزية، وينفقون أوقاتهم في المناقشة حول تحسين سلالة الحمير، وسوف تعجز قطعاً من إثبات كذب هذا الإدعاء، ولكن هل عجزك هذا دليل على صحة هذه الرواية؟
إن الذين يدّعون أن التفكير في الحقائق يعتبر في عالمنا الإسلامي كفر، وحرية التفكير شيء خاطئ وظلالة، يجب محاربتهم وكشف زيفهم، لأنهم لم يعلموا بعد أن الإنسان لا يمكن أن يمنعه مانع عن التفكير فيما يشاء طالما هو لا يفعل شيئاً في سبيل التنفيذ.. هو حر يستطيع أن يفكر كيفما أراد في حدود مواهبه الخاصة وفي حدود نصيبه من اتساع الخيال.
ولكن هذه الحرية الفكرية الطبيعية الشخصية ليست لها قيمة تستحق الإعتبار، إذ هي حرية لا تجدي من المرء ولا من جيرانه شيئاً وهذا ما يريدونه حقيقة، فكأنهم يقولون لك : فكر في الأكل، الملبس، النوم، اللعب، الغناء، الرقص، تمتع بالحياة، وفريق آخر يقول، يجب أن تزهد وتترك الدنيا لأهل النار، يجب أن لا تتمتع، في حين أنهم هم الأولى بنهب خيرات الزهاد المساكين، وهذا حقيقة حرية مؤلمة للإنسان المفكر مادام لا يقدر على إيصال أفكاره للناس لتوعيتهم من هذه المصيبة، وإخراجهم منها، ومادام لا يستطيع بغير جهد جهيد أن يكبت أفكاراً قوية مثل هذا ويخفيها في الظلام، حتى وإن استطاع، فلا بد من وجود حراس الفكر المنير والواعي لمحاربته أو إغتياله، أو طرده، أو فرض الصمت عليه
ولقد يعرض للمرء المفكر الحر أن ينظر بعين ناقدة إلى الآراء والعادات التي تنتظم شؤون قومه، وأن ينبذ ما تعصبوا له من معتقدات، وأن يلتمس للحياة مناهج خيراً مما اتبعوا.. فإذا تمكنت منه آراؤه المستحدثة أصبح من شبيه المحال أن يكتمها كتماناً في ذات نفسه، ولا بد لآرائه حينئذٍ أن تبدوا منه ولو في كلمات عابرات، أو في سلوكه الشخصي أو في صمته إزاء بعض الأشياء .
ويرينا التاريخ الكثير من الأبطال الذي عانوا وقاسوا الويلات جراء تسلط بعض الأيادي الظلامية، ولكن رغم ذلك لا تزال هناك أصواتا حرة أبية لا تخاف سلطة مستبدة، ولا تأبه للظلام الكهنوتي، ولا من لومة لائم، ولقد اقتضى هذا الأمر قروناً متمادية لكي يمكن إقناع المتنورين من شعوب الأرض أن الخير كل الخير في أن تطلق حرية الإنسان في نشر أفكاره وفي مناقشة جميع ما يعرض له من الأشياء، وكانت المجتمعات البشرية ( ما عدا ألمعية نادرة) تقف موقف الخصومة والعداء من حرية الفكر، أي من الآراء الجديدة المبتكرة.
وليس من العسير أن ندرك سر هذا العداء؛ فإنك ترى عقل السواد من الناس عقلا كسولاً لا يميل إلى المعارضة إلا بمقدار، وإنك لتلاحظ أن الرجل العادي له (عالم عقلي) يتكون من معتقدات سبق له التسليم بها دون سؤال أو نقاش، وهي معتقدات قد ارتبطت بنفسه ارتباطاً وثيقاً يجعله يعادي كل من يهدد نظامها المأثور الذي ألفته نفسه واستراحت إليه ، لأن العامي ذو التفكير البسيط لا يأبه للحجج والبراهين إن كانت ضمن سياق المعتقد الذي يؤمن به.
إن قبول فكرة جديدة لا تتفق مع بعض معتقدات ذلك الرجل معناه أن يضطر لإعادة تنسيق (عالمه العقلي)، وهذا عمل يتطلب مشقة ويقتضي بذلك نصيب مؤلم من الجهد الذهني، فلا غرو أن نرى الرجل العادي وأقرانه ممن يكونون سواد الشعب يرون الشر كل الشر في قبول الآراء الجديدة والأفكار التي تلقى ظلاًّ من الشك على ما ورثوه من الأنظمة والمعتقدات.
هذا النفور من الآراء المستحدثة الذي يرجع إلى الكسل العقلي يزيده شدة وإمعاناً وجود شعور متأصل بالخوف والرهبة، فإن غريزة المحافظة على الذات قد تتحول وتتحجر في صورة المذهب المحافظ الذي يقرر أن أساس المجتمع يتعرض لخطر عظيم إذا حاول إنسان أن يحدث فيه أي تغيير أو تبديل؛ ولقد كان الناس يعتقدون إلى حين قريب أن رفاهية الدولة لا تتحقق إلا بالجمود على حال واحدة وتجنب كل تعديل في أنظمة الأمة وتقاليدها.
حيثما ساد هذا الإعتقاد شعر الناس بأن الأفكار الجديدة شيء خطير ومزعج، واعتبروه كل من يسأل أسئلة لا تعجبهم عن أسباب معتقداتهم ومصادرها، اعتبروه إنساناً خطيراً له خطر الوباء.
إن غريزة المحافظة على الذات وما ينتج عنها من مذهب محافظ يجدان عوناً كبيراً في الخرافات! ولا سيما إذا كان النظام الإجتماعي بما يحويه من عادات ومعتقدات مرتبطاً ارتباطاً جسيماً بالعقيدة الدينية التي تحيطه ولا ريب بعناية إلهية.
ونقد النظام الإجتماعي حينئذ تفوح منه رائحة الزندقة بينما يصبح انتقاد العقيدة الدينية تحدياً صريحاً لجبروت القدرة السماوية.
وليس هذا ببعيد عن عصرنا اليوم، لأننا مازلنا نصادف اليوم أناسا يرون في الفكرة الجديدة شراً بل قد يرون فيها خطراً مخيفاً، هناك أناس يمقتون الإسلام مثلاً وأكثرهم لم يعلموا أصلا ما يبرره ويزكيه أو ما يعارضه ولكنهم مع ذلك ينفرون نفوراً شديداً لا لشيء إلا لأن (فكرة) الإسلام لا تنتظم مع عالمهم العقلي، وأنها تتضمن نقداً عنيفاً لما ألفوه من أنظمة المجتمع، ويقول فيهم ربنا سبحانه وتعالى: [ بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون * وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون * قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين * وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون] 22،23،24،25،26،27،28 – سورة الزخرف – وحتى من تلك الأصناف التي تنسب نفسها للإسلام اليوم بإسم فرقة السنة أو فرقة الشيعة فكلاهما لم يفهموا حقيقة الإسلام النبوي، الذي يعزز كرامة المسلمين، ويحترم الآخر، وسنحتاج للبراهين والأدلة الربانية / القرآن/ الأحاديث النبوية الصحيحة / التاريخ، التي تكشف زيف كل منهم بالطريقة السياسية في عصرنا اليوم الحافل بالأزمات والحروب، والعالق في قضايا التقسيم والشتات كل ذلك بإسم هذه الفرق، دون أن نغفل العامل الخارجي في تأجيج تلك النار.
وهؤلاء الناس قد يكونون على صواب في جانب، ولكنهم يكونون على خطأ مبين في جوانب شتى ، وهم على أية حال هم مسيرون لا مخيرون، وهم مدفوعون بنفس الدوافع التي اعترضت سبيل النهضة الإنسانية في المجتمعات الفطرية.
إن وجود أناس لهم مثل هذه العقلية في أيامنا هذه واستطاعتهم التجمع في عالمنا هذا الحر إلى جانب أناس متطرفين يتطلعون إلى مستحدث الآراء ويتلهفون على المزيد منها يصور لنا كيف كان الفكر مغلولاً وكيف كانت العقبات أمامه شنيعة حينما كان الأمر بيد أمثال أصحابنا الجامدين المعاصرين .
وما يدفعني إلى القول بهذا ليس لأنني أشكك في الإسلام بل لأنني على يقين بأن الإسلام لم يأتي على هذه الشاكلة، فكثير مما نفعله مناف لما هو مقر به في القرآن الكريم، فإن كان القتل حرام فهو حرام، ولا بد للقاتل أن يعاقب سوى قتل مسلما أو كافرا، كما أن السلطان يجب أن يُقوَّم، ويحاسب على خطأه ولا بد للقائمين على هذا أن يقروا بخطئه حتى ولو كان جائر وطاعته ليست واجبة إن خرج عن مقصد الحكم السليم الذي يقره الشرع، أو يعترف به القانون، ولكن لما أغفلنا هذه العوامل الأصيلة صار طاعة الحاكم الجائر من طاعة الإله المعبود، فظللنا طريقنا، وضاع المسلم بين هذا وذاك، فأنا هنا لا أشك في أن الأرض تبعد عن الشمس بنحو 93 مليون ميل، لأن الفلكيين قد أجمعوا على أن هذا التقدير هو نتيجة عملية حسابية صحيحة، وقد كان اتفاقهم نتيجة لصحة هذه العملية، وإنني لا بد واصل إلى نفس النتيجة لو كلفت نفسي مشقة علاج الأرقام والمعادلات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحقيقة الدينية والسياسية والأدبية وغيرها، فإن كلفنا أنفسنا القليل من العناء والإجتهاد في البحث، فلا بد أننا سنصل إلى الجواب الصحيح في آخر المطاف.
ولكن الأثاث العقلي الذي يعمر أدمغة الناس يختلف عن هذه الأمثلة التي ذكرناها، فإن أفكار الإنسان العادي ليست كلها قابلة للتحقيق والتمحيص، بل إنّ جانباً كبيراً منها قد اضطر لقبوله ” منقولاً” عن طريق الشيخ الفلاني، والباحث الفلاني، والعالم الفلاني؛ وليست لدى ذلك الإنسان المسكين القدرة على التثبت من حقيقته .
إن الفارق بين ” المعقول” و ” المنقول” أوضح من أن يذكر، ولكنه من الجدير أن نستوثق من الحدود الفاصلة بينهما؛ فالرجل الفطري الذي قيل له إن في تلك التلال دببة وإن فيها كذلك أرواحاً شريرة يستطيع أن يتحقق من وجود الدببة بأن يرى هنالك واحداً منها فقط، ومع أنه قد لا يرى بعينيه روحاً شريرة، فإنه لا يستطيع أن يفرق بين صحة هذين الخبرين اللهم إلا إذا كان عبقريا موهوباً، بل إنه قد يستدل – إذا كان لمثله أن يستدل – على أن قومه صادقون في ادعائهم وجود الأرواح الشريرة ما داموا صادقين في تقريرهم وجود الدببة .
فكذلك آمنا بأفكار الفرق المتناحرة السنية أو الشيعية، وستسألني هنا أي دين سنتبع؟
إن الإجابة على هذا السؤال لا يقتصر على سطر أو سطرين، ولا يقتصر على ما سأجيبك به أنا، وإنما يقتصر على شيئين: القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والبحث العميق بأدلة صريحة، ولو تدبّرت القرآن وتمعنت أفكاره، لوجدت أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تخالفه في أمر واحد، وأي مخالفة يعني زيف وتهمة في حق الرسول، وسنعالج هذا الأمر في قضية الخلافة في صفحاتنا المقبلة بإذن الله.
عموما؛ يمكن القول أنّ معظم الناس الذين شبوا في جو حر في دولة حديثة يرمقون الحرية بعين العطف في كفاحها المتمادي ضد السلطة التحكمية الملزمة، ولا يكادون يتصورون إمكان الدفاع عن تلك السياسة الباغية الجموح التي توسلت بها المجامع والحكومات وأصرت عليها لإخماد الأفكار الجديدة وإزهاق حرية التفكير؛ ولقد تبدوا الصورة التي رسمتها في هذه الصفحات كما لو كانت تمثل حربا بين النور والظلام؛ وإنا لننادي بأن الذي حبك أطراف هذه المؤامرة المشؤومة على الإنسان المسلم هم: ” السلطان المستبد” “والمحراب/ الكهنوت”؛ وإننا لنتلفت إلى الماضي بقلوب فزعة، نتلفت إلى الكوارث التي عاناها كثير من أبطال حرية الفكر على يد كل أعمى حقود من ذوي السلطان، ونترقب واقعنا بعقل قد تم إرهابه نتيجة للقوانين الخرافية المجحفة التي يطلقها رجال الكهنوت بإسم الدين في حق المفكرين الأحرار مثل الألباني وقطب و، الذي يمتلكون حرية أفكارهم .
الفكر… طبيعته ومضمونه
ما هي الأفكار؟ وما هو التفكير بالضبط؟ فلنقم بجولة في العالم المذهل اللانهائي الذي تبتدعه عقولنا.
حاول – إن استطعت – أن تتخيل الحياة دون فكر؛ بالنسبة إلى البشر ستكون حياة بلا حياة؛ فالأفكار تملأ كل لحظات يقظتنا، وسواء أكانت استبصارية أم عادية أم مرحة أم غريبة، فلا مجال لإنكار حقيقة أن التفكير أمر فطري لدينا، فيمكننا أن نقول إن الفكر بالنسبة إلى البشر يضاهي الطيران بالنسبة إلى النسور، والسباحة بالنسبة إلى الدلافين.
ولكن التفكير شيء، وفهم طبيعة الفكر شيء آخر تمامًا، فكما تطير النسور دون أي فهم للديناميكا الهوائية وتسبح الدلافين دون فهم لميكانيكا الموائع، يفكر معظمنا دون معرفة أي شيء عن طبيعة التفكير، وقد يكون التفكير أمرًا عاديًّا، ولكن يندر بعض الشيء أن نفكر في الفكر في حد ذاته.
فما هو الفكر؟
ذاك سؤال تُمثِّل الإجابة عنه صعوبة مدهشة، فقد تَطرَّق إليه علمُ الأعصاب وعلم النفس والفلسفة وغيرها من المجالات من منظوراتها المتنوعة، إلا أن الفكر لم يتلقَّ اهتمامًا مستدامًا بالقدر الذي يستحقه.
قد يُعزَى ذلك جزئيًّا إلى أن الفكر ظاهرة متنوعة ومعقدة للغاية، فثمة قدر هائل من الأشياء التي يمكننا أن نفكر فيها: جماد، أشخاص، أماكن، علاقات، مفاهيم مجردة، الماضي، الحاضر، المستقبل، أشياء حقيقية، أشياء خيالية، وقد لا نفكر في شيء مطلقًا، بل وقد نفكر في الفكر نفسه.
وممارسة الفكر أمر مراوغ بدوره، وإن كان ثمة بعض الأمور التي يمكننا قولها عنه، فنحن نستخدم الفكر في حل المشاكل واختراع الأشياء، ولكن ما مدى تحكمنا في تلك العملية؟ وهل ثمة حدود لما يمكن أن نفكر فيه؟
حتى نتمكن من إحراز بعض التقدم فيما يتعلق بالإجابة عن تلك التساؤلات، علينا أولًا أن نحدد بعض الأمور؛ فلفظ (الفكر) ، يحتاج للبحث المتنوع في مصادر من سبقونا لهذا البحث، وبالتالي نجد أن كلمة ( فكر) والتفكير والأفكار من الكلمات الشائعة جدا على ألسنة العامة والخاصة اليوم؛ وعند عودتنا إلى معاجم اللغة نجد أنها تعرف بالشكل التالي:
نقول: فكَّر الشخصُ : أي مارس نشاطه الذِّهنيّ
فَكَرَ في الأمرِ : أعملَ العقْلَ فيه ورتَّبَ بعضَ ما يعلم ليصَل به إلى مجهول
الفِكْرُ : إِعمالُ العقلِ في المعلوم للوصَول إلى معرفة مجهول
والرؤية الشاملة للمصطلح (فكر)، نقول: ” أنه إعمال الإنسان لإمكاناته العقلية في المحصول الثقافي المتوفر لديه بغية إيجاد بدائل أو حل لمشكلات أو كشف العلاقات والنسب بين الأشياء”.
ومن خلال هذا التعريف ندرك أن الفكر ليس شيئا مطابقا للأحكام والمبادئ، ولا مطابقا للثقافة أو العقل أو العلم، وإنما هو استخدام نشط لكل ذلك بغية الوصول إلى المزيد من الصور الذهنية عما يحيط بنا من أشياء وأحداث ومعطيات حاضرة وماضية وتوسيع مجال الرؤية لآفاق المستقبل .
كما يستخدم أيضا – هذا المصطلح – هنا للدلالة على “نتائج عمليات التفكير والتأمل العقلي التي يقوم بها الإنسان بوصفه كائناً عاقلا مفكرا”، حيث ينتج العقل الإنساني نتاجاً على قدر متفاوت من الدقة والعمق والوضوح والتنظيم والموضوعية نسميه فكراً، وينعكس هذا النتاج الفكري في صور متعددة وأشكال مختلفة وصيغ متباينة؛ وينشأ الفكر ويتراكم وينمو ويتطور بوصفه ثمرة من ثمار سعي العقل الإنساني لإدراك طبيعة الظواهر المحيطة به وفهمها وتفسيرها، وصولاً إلى لحظة التنبؤ بإحتمالاتها المستقبلية، تمهيدا للسيطرة عليها والتحكم بها كلما كان ذلك ممكناً ومرغوباً .
فكلمة (فكر) بصفة عامة ” إنما تعني الآراء والمبادئ والنظريات التي يطلقها ويعتمدها العقل الإنساني في تحديده لموقف أو مواقف معينة إزاء الكون والإنسان والحياة”
إذن.. ما الفكرة؟
تقول جاكلين روس: “هي كلمة – ملتقى” خضعت لتحولات دلالية عميقة عبر تاريخها: فالفكرة عند أفلاطون تشير إلى نموذج مدرك للواقع، أما عند هيغل، فهي مبدأ الجدلية عينه؛ تمثل الفكرة في نظرنا، شكلا مثاليا يعطي العالم إطاراً ومعنى، ويوحّد وينظّم؛ ذلك أن الفكرة تجسد وحدة جدلية حية، إنها صورة غير ملموسة، لكنها تجمع أحداث التاريخ، وترشدها، وتنيرها، وتقودها، إنّ التصورات الأساسية، كالتطور، والإنسانوية، والعدل، والحق…التي بواسطتها يتأمل البشر العالم، هي حقائق تتحكم بكل شيء، وتنشر حياةً تتميز بنشاط كبير، وتمتلك القوة والسلطة، تُظهر أفكار التطور أو الديمقراطية تلك الطاقة الخلاقة الهائلة، أبعد من كونها تركيبات فوقية فقط أو عناصر محدّدة بتركيبة تحتية اقتصادية أو سياسية (ماركس)، تتطور الأفكار بفعل تاريخ خاص بها وبطريقة مستقلة نسبيا، وقدرتها الخلاقة التي تنبع من داخلها تتحكم بهذا التطور وهذه الصيرورة” .
وتقول في موضع آخر: ” تتميز الفكرة عن الإيديولوجية التي هي نظام أفكار ومفاهيم مجتمعة حول بعض المبادئ الأساسية والهادفة إلى تفسير العالم، يقول ريمون آرون: ” نهاية الإيديولوجيات، نهضة الأفكار” وهو عنوان لأحد أبحاثه، فالإيديولوجية، بالإشارة إلى الماركسية وهي الإيديولوجية بإمتياز، تتضمن عامة نقضا، وعجزاً، وخطأً أو مغالطة: فهي تعني مفهوما للعالم وهميّاً أو مخادعاً، نوعا من الخليط الذي تمتزج فيه الحقائق؛ لا تتماهى الفكرة مع الوهم الإيديولوجي، لأنها إنتاج روحي يرشد البشر وهو ضروري لهم، من الممكن أن تتحول الفكرة إلى تصور للعالم يتناسى الواقع، لكنها تعني في الأصل قوة روحية مليئة وصادقة، ونداءا وواقعا فاعلا: إنها تصور موجَّه يشكل أساساً للفكر، وفيما تتسم الإيديولوجيات بوصمة سلبية، تجسد الفكرة تصوراً أكثر انفتاحا، من دون أن تكون حيادية، إذا كان لا بُدّ لنا من الحكم على الإيديولوجيات، كيف لنا أن نحكم على الأفكار، وهي أوكسجين الحياة الإنسانية؟..من دون أفكار، لا يمكن للفرد إلاّ أن يتقهقر ويموت؛ يمكن للوجود أن يكون إنسانيا من دون إطار إيديولوجي ضامن ومُطمئن، ولكن لا يمكنه أن يكون إنسانيا من دون أفكار” .
ومن يطلب العيش بدون أن يفكر فهو كمن يطلب الحياة دون أوكسجين، وهذا مالا يمكن تحقيقه أبدًا، لأنّنا ببساطة نحيا داخل تلك الأفكار، ونقبع داخلها لصنع عالمنا الصغير، بل هي العالم بذاته، ولا يمكننا أن نعيش بدونها كما لا يمكننا أن نعيش دون أوكسجين، وليست هناك فكرة تعيش خارج ذواتنا مستقلة، فلو تابعنا برهاننا لقلنا أن الحرية، الخلافة، الأمة، الدولة، الدستور، القوانين، الحرب، السلم، الحق، الواجب، كلها أفكار نابعة من واقعنا، وكلها وقائع نابعة من أفكارنا، وهكذا تجدنا نحارب ونناضل من أجلها دونما حساب لألف حساب، لولا تلك العقول والأفكار التي أنارت دربنا بتوقيف حربنا، وتقليص تناقضاتنا، محاولةً منهم بناء عالم من التصورات العليا، وتشييد مجتمع أصيل، وحماية الثقافة بحصون مصقولة، لما كان للأصالة من وجود.
وللأفكار سلطة تفوق كل السلطات المتعارف عليها، وهي أكثر شراسة وفتكا مثلما هي أكثر لطفا، وهي التي تستحوذ على عقول الشعوب وذوي العقليات البسيطة، وتبث طاقة الحرب كما تبث طاقة السلم، لكن رغم ذلك تبقى الأفكار هي الأكثر غموضا وعنادا من الواقع ذاته ، كما تقر بها جاكلين في قولها: ” لأن الوقائع تتحطم على الأفكار أكثر مما تتحطم الأفكار على الوقائع”.
وبما أننا نسعى خلف الفكر الإسلامي الكوني وبث رسالة التوحيد التي حملها الإنسان لخلافة الإنسان، يجب أن نسعى أولا للرجوع للذات، والبحث في أعماقها، وكشف ماهيتها، حتى يتسنى لنا وللآخر فهم طبيعة الإسلام الحقيقي، وإدراكنا جميعا أن العالم مؤلف من كل الأشياء، هو عالم واحد؛ يسري بين هذه الأشياء إله واحد، ماهية واحدة، قانون واحد، وعقل مشترك بين كل الكائنات الحية العاقلة، وحقيقة واحدة ، لأننا لو أدركنا ذلك لوضعنا كل هذه الحروب جانبا.
عموما يمكن القول بأن الأفكار ليست تركيبات فوقية أو إنعكاسات، وليست عالماً منفصلا مجرداً، إنما هي طاقات ديناميكية تمتلك وجوداً موضوعيا وتنتج الحضارات التي تخلقها وتنظمها؛ هكذا هي الأفكار، تسلك مسلك الكائنات الفاعلة التي تتمتع بقدرة ذاتية .
التفكير..خارج الدائرة
يعتبر التفكير بالنسبة لنا كمسلمين هو فريضة واجبة وملزمة لكل الالمسلمين الذين لهم مسؤولية على أنفسهم أو أسرهم أو مؤسستهم أو قريتهم أو مجتمعهم أو وطنهم أو أمتهم، وللتفكير أصناف كما هو متداول في الخطاب الإلهي للإنسان، وفي هذا المقام سنرى صنفين الأول يكمن في الصنف الذي يختص بالعقول الصغيرة والناشئة، وهي الفئة التي خصها القرآن بخطاب خاص بها، ليبسط ما يلزمهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ومن خطابه لهذه العقول، كما يفضل أن يسميها العقاد ” العقل العامي” و “العقل الوازع والمدرك” ، قوله تعالى في سورة البقرة:
[إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون] “164”
ومنه في صورة المؤمنون:
[وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ] “80”
ومنه في سورة الروم:
[وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ] “21”
والكثير من الآيات التي لم نذكرها خص بها الله تلك الفئة، لأن هذا الخطاب المتكرر إلى العقل الوازع يضارعه في القرآن الكريم خطاب متكرر مثله إلى العقل المدرك أو العقل الذي يقوم به الفهم والوعي وهما أعم وأعمق من مجرد الإدراك، وكل خطاب إلى ذوي الألباب في القرآن الكريم فهو خطاب إلى اللب – هذا العقل المدرك الفاهم لأنه معدن الإدراك والفهم في ذهن الإنسان كما يدل عليه إسمه باللغة العربية..
أما الصنف الثاني فهو العقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي والروية فالقرآن الكريم يعبر عنه بكلمات متعددة تشترك في المعنى أحياناً وينفرد بعضها بمعناه على حسب السياق في أحيان أخرى؛ فهو الفكر والنظر والبصر والتدبر والإعتبار والذكر والعلم وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتفق أحيانا في المدلول ولكنها لا تستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات الأخرى .
[ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون] “213” – سورة البقرة
[الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ] ” 191″ – سورة آل عمران
[قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ] “16” – سورة الرعد
[قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ] ” 9″ – سورة الزمر
والآيات في هذا الشأن كثيرة تدل على فريضة التفكير في الإسلام وتبين منها أن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر..ذلك أن الدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يتوسط فيه السدنة والأحبار بين المخلوق والخالق، ولا يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي متسلط أو صاحب قداسة مطاعة، فلا ترجمان فيه بين الله وعباده يملك التحريم والتحليل ويقضي بالحرمان أو بالنجاة، فليس في هذا الدين إذن من أمر يتجه إلى الإنسان من طريق الكهان، ولن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان حرا طليقا من سلطان الهياكل والمحاريب أو سلطان كهانها المحكمين فيها بأمر الإله المعبود ، ولا سلطة لمؤسسة أو شيخ، أو زاوية صوفية على العقل تفرض عليه ضوابط لتقييده، وحجب الحقائق عنه، كما لا عقل بإمكانه أن يُحجب عن الحقيقة إلا إذا أراد لنفسه ذلك.
بعد ذكر أصناف التفكير، ننطلق الآن في فهم عملية التفكير والتعمق فيها عن طريق ذكر بعض الأمثلة كالتالي:
لنفترض أنك أوقدت نارًا في الخلاء، سيمكنك رؤية ألسنة اللهب والشعور بالحرارة، تلك أحداث ندركها عن طريق الحواس، وقد تجد نفسك تتساءل أيضًا عما يمكن أن يحدث إن غيَّرتِ الريحُ اتجاهَها، أو تتساءل عن كيفية حدوث عملية الاشتعال، تلك الأحداث استحدثتها التجربة الحسية التي تعرَّضت لها، ولكنها ليست أشكالًا حسية في حد ذاتها، وإنما هي أفكار.
سأعطيك مثالا آخر وأتمنى أن تُفكر مجددًا في الفرق بين الإدراك الحسي والتفكير، فحتى تدرك تفاحة — على سبيل المثال — إدراكًا حسيًّا، لا بد من وجود علاقة سببية بينك وبينها، فلا بد أن ينعكس الضوء من عليها ويعالجه جهازك البصري، ولا يلزم وجود مثل تلك العلاقة للتفكير في تفاحة، فيمكنك أن تفكر فيها وقتما تشاء، سواء كانت موجودة أم لا، وهذا ما يتيح استخدام مَلَكة الفكر في جميع أنواع المواقف.
السمة الأخرى للفكر التي يوجِّهنا ديكارت إليها هي نطاق الفكر، فالإدراك الحسي – الحواس- لا يتيح لنا الوصول سوى إلى مجموعة محدودة من الأشياء، فالبصر يمكن أن يخبرنا أن التفاحة حمراء أو أنها تسقط، ولكن فقط الإنسان الذي يتمتع بالقدرة على التفكير يمكنه إدراك حقيقة أن أصل التفاح يعود إلى غرب آسيا أو أنه يحمل جينات أكثر من الجينات التي يحملها البشر، ويمكننا أن نفكر في أشياء بعيدة عنا جدًّا مكانًا وزمانًا، وفي أشياء ملموسة وأشياء مجردة، وفي الماضي والمستقبل، وفي أشياء موجودة وأشياء غير موجودة، قد لا يكون نطاق الفكر البشري مطلق الحدود، ولكن لا شك في أنه يتجاوز نطاق الحواس إلى حد كبير .
ولعل جميعنا يدرك بأن في نهاية القارة الإفريقية هناك دولة تسمى جنوب إفريقيا، رغم أننا لم نسافر إليها، ولكن بمجرد تحققنا من إجماع الآراء لأشخاص سافروا إليها، نقتنع بأنها موجودة حقا، رغم أنا حواسنا لم تطأ أرضها ولم ترها.
إذن فعلى الرغم من تمتعنا ببعض السيطرة الواعية على اتجاه أفكارنا، فإنها ليست غير محدودة على الإطلاق. وإذا كانت سيطرتنا على أفكارنا محدودة نسبيًّا، فربما تكون مسئوليتنا عنها محدودة نسبيًّا أيضًا.
إلا أنه من الواضح أن قدرات الفكر البشري كبيرة جدًّا، فهي ليست محدودة على غرار قدراتنا البدنية وقدراتنا الإدراكية الحسية، فنحن على سبيل المثال لا يمكننا رؤية رُقع مكانية أو زمنية بعيدة ولا زيارتها، ولكن يمكننا أن نفكر فيها.
هل ثمة حدود لما يمكن لعقولنا استيعابه؟
قد تبدو فكرة كون بعض جوانب الواقع عصيَّة علينا غير مقبولة للوهلة الأولى، كأن نوحد الآراء حول ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم أو إجماع العلماء حول وجود عذاب القبر أم لا؟ إلا أنه على أي حال، يمكن ترجيح رأي على رأي عن طريق التفكير فيما يتناسب والواقع ودمجها بالحجج والبراهين، مع مراعاة ظروف العصر والجيل الذي يعيش فيه، فإسقاط حد السرقة في ظرف المجاعة لا يعتبر إنتهاكا للحدود بقدر ما هو ظرف واجب التعامل معه بحنكة ووعي دقيق، ولا يبدو أن ثمة جانبًا في العالم لا يمكننا التفكير فيه ولا يوجد قضية لا يمكننا الوصول إلى حل لها كما هو مذكور في ظرف المجاعة.
إن الإقرار بأن بعض جوانب الواقع تتجاوز حدود استيعابنا شيء، ولكن تحديد ما قد تكونه تلك الجوانب شيء مختلف كليًّا، فهل يمكن تعيين حدود الفكر البشري؟
قد يبدو ذلك السؤال سخيفًا نوعا ما، فقد تقول: إنه إذا كانت فكرة معينة يستحيل أن تَرِد على فكرنا فلا يمكننا أن نفكر فيها، ناهيك عن معرفة أنه يستحيل أن تَرِد على فكرنا، ولكن ليس ثمة تناقض في محاولة الوقوف على مكان الحدود، يكمن مفتاح الحل في التمييز بين تصور الفكرة والتفكير فيها فعليًّا، فمثلما يمكننا أن نعرف الأمور التي نجهلها — المجهول المعروف — يمكننا أيضًا أن نفكر فيما يستحيل علينا تصوره — لك أن تسميها: المستحيلات المتصورة.
وأينما وقعت حدود الفكر البشري، لا شك أننا لم نبلغها من قريب أو من بعيد، فثمة أفكار — أفكار عميقة ومهمة ونافذة — لم تخطر على بال إنسان بعد، ولقد قطعنا شوطًا طويلًا بالفكر، ومن يدري إلى أين سيقودنا؟!
ربما سنحرر العقول ونصنع الأسباب للتفكير من جديد في عالم إسلامي كوني، ومن يدري لعلنا الآن في الطريق، وقد تجاوزنا خط الإنطلاق كما يقول الباحث الأردني فلاح أديهم مسعد المسلم، وأن ما يحدث بالعالم العربي من هيجان، ما هو إلا إنعكاس لماهو في العقل من أفكار جديدة، تسعى إلى التطبيق العملي على أرض الواقع.
وبما أن التفكير هو عملية دائمة ومستمر في الحياة، نخوض تجربتنا مع التفكير في العيش عند المجتمعات الثلاثة، والمتمثلة في المجتمع الرأسمالي، والمجتمع الإشتراكي والمجتمع الإسلامي..
نعلم جميعاً أنّ التفكير بالعيش هو الذي يصوغ الحياة للفرد، وهو الذي يصوغ الحياة للعائلة والعشيرة، وهو الذي يصوغ الحياة للقوم، وهو الذي يصوغ الحياة للأمة، وهو فوق كل ذلك يصوغ الحياة للإنسانية، صياغة معينة، فيجعلها شكل قرد أو خنزير، ويجعلها من ذهب أو من قصدير، أي يجعلها حياة عز ورفاهية وطمأنينة دائمة، أو يجعلها حياة شقاء وتعاسة وركض وراء الرغيف. ونظرة واحدة للتفكير الرأسمالي بالعيش، وما صاغ به الحياة للإنسانية كلها من صياغة معينة، تُري ما جلبت هذه الصياغة لحياة الإنسانية كلها من تعاسة وشقاء وجعل الإنسان بقضي حياته كلها يركض وراء الرغيف؛ وكيف جعلت العلاقات بين الناس علاقات خصام دائم، هي علاقة الرغيف بيني وبينك آكله أنا أو تأكله أنت، فيستمر بيننا الصراع حتى ينال أحدنا الرغيف ويحرم الآخر، أو يعطي أحدنا ما يبقيه على الحياة ليوفر باقي الرغيف للآخر ويزيد خبزه، فنظرة واحدة لهذه الصياغة التي صاغها التفكير الرأسمالي للحياة، تُرينا كيف جعلت الحياة الدنيا دار شقاء وتعاسة، ودار خصام دائم بين الناس، ذلك أن التفكير الرأسمالي بالعيش، وإن كان قد بناه على فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة، أي وإن كان بناه على نظرة معينة في الحياة، فإنه وإن حقق نهضة للشعوب والأمم التي سارت على هذا التفكير بالعيش، فإنه أشقى تلك الشعوب والأمم، وأشقى الإنسانية بأجمعها، فهو الذي أوجد فكرة الاستعمار والاستغلال، وهو الذي أتاح لأفراد أن يعيشوا في مستوى هيأ لهم أن يأخذوا الرسائل التي تأتيهم على طبق من ذهب يقدمه إليهم الخدم، أي العبيد، وحرم أفراداً حتى من أن يكونوا خدماً أو عبيداً لأبناء عائلاتهم أو عشيرتهم أو أمتهم، يستطيعون أن ينعموا بفضلات العيش، وفي أمريكا الغنية، وإنجلترا التي تحلم بالإمبراطورية، وفرنسا التي يسبح خيالها بالعظمة والمجد، نماذج عديدة من هذه الحياة، فضلاً عما فعلته فكرة الاستعمار والاستغلال في غير أوروبا وأمريكا من استعباد ومص دماء الشعوب الإلإريقية والآسيوية؛ وكل هذا إنما كان، لأن التفكير بالعيش ليس تفكيراً مسؤولاً، أي ليس تفكيراً فيه المسؤولية عن الغير، وإنما هو خال من المسؤولية الحقيقية، حتى وإن كانت تظهر فيه المسؤولية عن العائلة أو العشيرة أو القوم أو الأمة، ولكنه في حقيقته خال من المسؤولية، لأنه ليس فيه إلا ما يضمن الإشباع.
والفكرة الاشتراكية وإن جاءت لتوجد المسؤولية في التفكير بالعيش، لتوجدها مسؤولية عن الفقراء والكادحين، ولكنها وقد عجزت عن الصمود أمام الحياة، انحرفت مع الزمن، حتى غدت اسماً أو شبحاً، وأخذت تخلو تدريجياً من المسؤولية عن الغير، حتى صارت فعلاً تفكيراً بالعيش، لا يختلف عن التفكير الرأسمالي، في الخلو من المسؤولية عن الغير، وصارت في واقعها فكرة قومية أكثر منها فكرة إنسانية.
وعلى هذا فإن العالم، وإن كان فيه التفكير في العيش مبنياً على نظرة للحياة لدى كل من أوروبا وأمريكا وروسيا وهي الدول التي تصوغ الحياة في العالم، فإن التفكير في العيش الموجود في العالم يعتبر حقيقة أنه خال من المسؤولية عن الغير، إن المرء قد يفهم أن خلو التفكير بالعيش من المسؤولية عن الغير، قد يوجد طبيعياً في الإنسان المنحط ولكنه لا يفهم كيف يجعل استعباد الغير واستغلاله لإشباع حاجات الذات يحل محل المسؤولية عن الغير، ولهذا فإنه رغم مظاهر النهضة والتقدم الموجودة في العالم اليوم ولكن خلو التفكير بالعيش لدى الناس ولا سيما الأقوياء القادرين على تحصيل العيش، من المسؤولية عن الغير يجعل العاقل المبصر يدرك أن العالم في تفكيره بالعيش منحط وليس متقدماً، وقلق وليس بمطمئن ويعتبر أن بقاء هذا التفكير بالعيش الخالي من المسؤولية عن الغير أمر مضر بالحياة، ومجلبة للشقاء للإنسان، ولذلك لا بد من القضاء على هذا التفكير والعمل لأن يحل محله تفكير بالعيش تكون المسؤولية عن الغير جزءاً لا يتجزأ منه .
ولعل ما نراه اليوم من معاناة في الساحة العربية الإسلامية – الإفريقية – الآسيوية من قتل وتشريد وتخريب من أجل أن تحصل الدول العظمى المتمثلة في المحور العالمي (أمريكا – روسيا – أوروبا الغربية) وفي المحور الإقليمية والمتمثلة في ( إيران – إسرائيل)، و محور المنظمات الإرهابية والإجرامية التي تمررها كل هذه الدول لتدعس كرامة تلك الشعوب وتحطيم دولهم، وسلبهم من حقوقهم، كل ذلك من أجل أن تحصل على حفنة من بترول أو غاز – ثروات طبيعية – أو تبسط سلطتها لتحقق رفاهيتها على حساب تلك الشعوب
صحيح أن التفكير بالعيش يرتقي من التفكير بالعيش لنفسه إلى التفكير بالعيش لعائلته وعشيرته، ويرتقي من التفكير بعيش نفسه إلى التفكير بعيش قومه، ويرتقي من التفكير بعيش قومه إلى التفكير بعيش أمته، ويرتقي من التفكير بعيش أمته إلى التفكير بعيش الإنسانية. ولكن هذا الارتقاء وإن كان موجوداً في فطرة الإنسان، ولكنه إذا ترك وحده بدون أن يجعل له أساس يبنى عليه فإنه قد يحصر بالتفكير بعيش نفسه ولا يتعداه إلا إذا كان متعلقاً بعيش نفسه، كأن يتعداه، إلى التفكير بعيش عائلته وعشيرته، أو يتعدى ذلك إلى التفكير بعيش قومه وأمته، ولكنه يظل تفكيراً بعيش نفسه، فتبقى فيه الأنانية متحكمة، ويظل الانحطاط بارزاً في تصرفاته، أو مظهراً من مظاهر حياته. ولا يتعدى ذلك إلى النهضة، ولا إلى الاطمئنان الدائم، ولهذا فإن ترك التفكير بالعيش هكذا على طبيعته، دون أن يبنى على نظرة في الحياة، لا يصح أن يستمر وأن يبقى، لأنه لا يوصل إلى النهضة، ولا إلى الطمأنينة الدائمة، بل يحول دون الطمأنينة الدائمة، والعيش البدائي، أو عيش الشعوب المنحطة، لأن التفكير بالعيش في حقيقته لا يعني التفكير بإشباع الطاقة الحيوية إشباعاً آنياً أو كيفما اتفق، ولا إشباع الذات وحدها أو العائلة وحدها، أو القوم والأمة وحدهم. فإنه إنسان يحيا في الكون، فلا بد أن يكون التفكير بالعيش أن يكون عيشاً مستمراً، وأن يكون عيشاً على أرقى وجه مستطاع، وأن يكون لعيش الإنسان من حيث هو إنسان، بما تقتضيه غريزة بقاء النوع الإنساني. وهذا لا يمكن أن يتأتى بجعل التفكير في العيش دون بنائه على نظرة معينة للحياة. لأنه إذا بقي كذلك، ظل تفكيراً بدائياً وظل تفكيراً يتسم بالانحطاط ، وخير دليل على ذلك هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الصحابة حين أخرجوا القرية التي لم تكن معروفة إلى عالميتها، وخرجوا من تفكيرهم الذاتي إلى تفكيرهم العالمي، ليغزوا العالم، ويغمرونه بالسلام، إنه التفكير السليم الذي دعى إليه الخطاب الرباني، ليخرجنا من ظلماتنا إلى نوره، ومن تعاستنا إلى رحمته، ولكن حين أوكلنا مهامنا لغيرنا، وعطلنا قوانا العقلية، كان لزاما للظلام أن يخيم فوق رؤوسنا، ولعل الإغتيالات والمحاكم التفتيشية والتعذيب والتهجير للعلماء التي حدثت مؤخرا في القرن العشرين والقرن الواحد والعشرون من سيد قطب إلى زواري هي أكبر دليل على أن هذا الظلام لا يزال يراقبنا، ويقطع أنفاسنا، ولكن لو إجتمعت الأمة على التفكير في القضايا الحاكمية كالدولة/الخلاف والسلطة، والحاكم، والمحكوم، وما إلى ذلك ؛ إنطلاقا من أن التفكير هو تفكير لأجل هذه الأمة سيكون قريبا لها ذلك الحلم المتمثل في النصر.
السياسية..أصل وأصالة
السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة؛ فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي، والترويض والتنظيف وغير ذلك.
وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر، فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم، ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم، وساس الأمر سياسة: قام به؛ والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.
وتعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت – نقلا عن معجم (روبير)- بأنها: (فن إدارة المجتمعات الإنسانية).
وحسب معجم (كامل): (تتعلَّق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني).
وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: (أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها).
ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها: (أصول أو فن إدارة الشؤون العامة) .
تشير السياسة في دلالاتها الإصطلاحية النظرية والعملية على حد سواء إلى ” كل نشاط نظري أو عملي يتعلق بحكم الجماعة الإنسانية وإدارة شؤونها وإتخاذ القرارات العامة اللازمة لحماية وجودها وتلبية احتاياجاتها وإدامة قيمها وضمان مصالحها وتحقيق أهدافها واستثمار قدراتها وتنظيم علاقاتها وتفاعلاتها وتوجيهها في الداخل والخارج”.
وبهذا المعنى العام تكون السياسة في تجلياتها الفكرية النظرية والتطبيقية العملية نشاطاً إنسانيا عاماً وشاملاً تشترك المجتمعات الإنسانية في حيازته وممارسته في كل الأزمنة والعصور، ويكون لمظاهرها ونشاطاتها حضورها الدائم والمستمر في الحياة الإجتماعية للإنسان عبر الزمان والمكان، فقد عرف الإنسان السياسة ومارسها طالما ارتبط بجماعة اجتماعية وعاش في إطارها والتزم بأعرافها وخضع لشرائعها وطوع إرادته لإرادتها، أو فعل العكس فألزمها بأعرافه وأخضعها لشرائعه وطوع إرادتها لإرادته؛ ولكن الإقتران الدائم والمؤكد بين السياسة والحياة الإجتماعية، لا يشترط وجود نوع محدد من الأفكار والنشاطات السياسية، مثلما لا يشترط بلوغها مستوى معيناً من التطور، حيث عرفت المجتمعات الإنسانية صوراً متعددة للسياسة بقدر ما هي متنوعة أيضاً فكرياً وتطبيقياً، فبداهة وحدة الحاجات الإنسانية لا تستتبع بالضرورة وحدة أشكال تلبيتها وطرق الإستجابة لها، مثلما أن بداهة التفكير الإنساني في ظواهر الحياة لا تعني بالضرورة وحدة أساليب ذلك التفكير أو مناهجه أو نتائجه؛ إذ تتناسب الإستجابات الإنسانية، الفكرية والعملية، في طبيعتها ومستواها تناسباً طردياً مع قدرات الإنسان العقلية وخبراته العملية وما يصل إلأيه من مستويات معرفية مما يفسر تنوع أشكال التفكير الإنساني في الظاهرة السياسية عبر التاريخ، وتعدد صور معالجتها لقضايا السلطة السياسية ومشكلاتها، وتباين أساليب بحثها فيها، ويعني ذلك أن السياسة قرينة المجتمع، مثلما أن السلطة قرينة السياسة، حيث إن وجود المجتمع يفرض وجود السياسة وممارستها، مثلما أن وجود وممارسة السياسة يفترضان وجود السلطة، طوعية كانت أو قسرية، لضمان تنفيذ قرارات المركز السياسي والإلتزام بتوجيهاته؛ لذلك يقول ريمون آرون: ” إن كلمة السلطة التي يوجد لها بمعناها الواسع العديد من الأشكال المختلفة، تتعلق بشكل طبيعي، وإذا ما استخدمت بدون نعوت إضافية، بالسياسة أو بالإنسان السياسي”؛ وعليه يمكن الجزم بأنه مثلما لا توجد جماعة إنسانية دون سياسة، فلا توجد سياسة دون سلطة تسمح بممارسة السياسة وتأدية مهماتها وتحمّل مسؤولياتها، فالمجتمع قرين السياسة والسياسة قرينة السلطة والسلطة قرينة المسؤولية.
من هنا جاء افتراضنا فيما تقدم بشأن عدم دقة أي تعريف للسياسة بدلالة الدولة أو أية محاولة لربطها بنموذج الدولة الوضعية الحديثة، فالدولة شكل مستحدث من أشكال السلطة السياسية، ومعطى سياسي غربي حديث الظهور، أما السياسة والسلطة السياسية فموجودة قبل هذه الدولة ومعها وبعدها وبها وبدونها، حيث إن السياسة والسلطة السياسية شرط للدولة وليست الدولة شرطا للسياسة وسلطتها، فقد عرفت المجتمعات الإنسانية كلها شرقا وغرباً في العصور القديمة والوسيطة صوراً مؤسسية متنوعة للسلطة السياسية كانت: ” مملكة، إمارة، إقطاعية، خلافة، سلطنة، إمبراطورية” أي شعوب وأقاليم يمتلكها، أو بحكم أن يمتلكها، أفراد ولأنهم يمتلكونها، أو بحكم ذلك، فإنهم يحكمونها ويتحكمون بها ممارسين حقهم في التصرف المطلق عليها وفيها استناداً إلى حق الملكية المطلقة الذي يتمتعون به ويمارسونه داخل السياسة وخارجها؛ إلا أن أيا من تلك الصور المؤسسية التقليدية للسلطة السياسية، لا تشبه الدولة الوضعية الحديثة التي تستقل فيها السلطة والوظيفة السياسيتين وتتخصصان، وتكتسبان طابعاً مؤسسيا يفصلهما عن شخص من يمارسهما، ومن ثم فستكون تسمية أي من تلك الأشكال المؤسسية التقليدية للسلطة السياسية دولة/دولاً من قبيل الخطأ الإصطلاحي الشائع أو الإستخدام التعبيري المجازي، والأمر في الحالتين راجع إلى التشابه الشكلي بين الدولة الوضعية الحديثة والأشكال التقليدية للسلطة السياسية مما ساعد على توحيد المسميات بينهما على الرغم من الإختلاف الجوهري بينهما.
وتأسيساً على ما سبق، فإن الإنسان، بوصفه كائناً مفكراً، حين جعل من الظاهرة السياسية موضوعاً لتفكيره وتأمله العقلي، كان وما زال يفكر فيها بمعنى السلطة السياسية وعبرها سواء اتخذت هذه السلطة شكل الدولة أم لا، فالسلطة السياسية من أسبق الظواهر وجوداً وأكثرها حضوراً في حياة الإنسان وأبعدها أثراً في توجيه نشاطاته الفردية والإجتماعية .
وإذا تخطينا تلك المدارس الفكرية، وفهمها للسياسة، إنَّها: ( فنّ الحكم، وأنّها الكفاح من أجل السلطة) وأنها: ( أداة للتسلط، والسيطرة والتحكم) وأنّها ( فن الوصولية) وعدنا الى الإسلام، لنعرف رأيه في السياسة، وتحديده لمفهومها من خلال الممارسة التي تمّت على يد الرسول الكريم (ص) والمقتدين بنهجه، ومن خلال النصوص والمفاهيم الواردة في القرآن والسنّة… ومن خلال الدراسات السياسية والعقائدية، خصوصاً بحث (الإمامة) لدى العلماء والمفكرين الإسلاميين، نستطيع أن نحدّد هذا المفهوم بشكل واضح، وبعيد عن الاضطراب والضُبابيَّة التي اكتنفت المدارس الفكرية المختلفة خارج الإطار الإسلامي.
فبإستقراء، ومتابعة كلمة السياسة، والراعي والرعية، والإمام، والسلطان وولي الأمر، والبيعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والشورى في الدراسات الإسلامية… وفي النصوص والمجالات ذات العلاقة، سنعرف أنّ مفهوم السياسة في المدرسة الإسلامية، قريب من معناه اللغوي.
فكلمة (سياسة) تطلق على كل عمل يتعلق برعاية الأمة، وتدبير شؤونها.. سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو التعليمية، أو إدارة الدولة، أو نشاط الأفراد والأحزاب الإسلامية، أو القضاء وإدارة العلاقات الخارجية والدفاع عن الأمة والعقيدة والأوطان… إلخ وإذن فالحكومة مسؤولة عن رعاية شؤون الأمة، والأمة مسؤولة عن رعاية شؤونها، ومن رعاية شؤونها، مراقبتها للسلطة، ومحاسبتها، وإسداء النصح والمشورة، وتحديد الموقف منها عند الانحراف، والخروج عن الخط الإسلامي.
ويعرف مسكويه السياسة في كتابه “الهوامل والشوامل” فيقول: ” إن المُلك هو صناعة مقوّمة للمدنيّة، حاملة للناس على مصالحهم من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار والإكراه”
وهكذا نفهم أنّ معنى السياسة هو ( الكفاح من أجل السلطة، والصراع عليها) وليس هو محصوراً في (فنّ الحكم المجرّد) وليس ( هي أداة تسلط طبقي) ولا هي ( فن الوصولية)… بل هي: ” رعاية شؤون الأمة”.
وقد عُرّفت السياسة في الفكر السياسي الإسلامي بأنّها:”رعاية شؤون الأمّة”.
كما يمكننا أن نعرّف السياسة من وجهة نظر الإسلام أيضاً بأنّها:” كل عمل اجتماعي يستهدف توجيه الحياة الإنسانية، توجيهاً تكاملياً، ضمن علاقات الحاكم والمحكوم التي حدّدها المنهج الإسلامي”.
لذلك نستعمل مصطلحات: السياسة المالية، السياسة الخارجية، السياسة التربوية، السياسة الإعلامية..إلخ.
ولا يكون النشاط سياسياً بمفهومه الاصطلاحي، الّا إذا كانت السلطة تشكّل أحد محاوره، كفّن إدارة شؤون العلاقات الخارجية بين الأمّة الإسلامية والأمم الأخرى، وكتوجيه التربية والتعليم، والأوضاع الاقتصادية في البلاد من قبل السلطة ..الخ.
الفكر السياسي..ماهو؟
على ضوء ما تقدم، يبدو بالإمكان تعريف ” الفكر السياسي” بأنه كل أشكال التفكير والتأمل العقلي في الظاهرة السياسية المتجسدة عملياً في السلطة السياسية”، ويستند افتراض صحة هذا التعريف وترجيحه على غيره من التعريفات إلى أنه يسمح بملاحظة كل أشكال وأنواع ومستويات التفكير الإنساني في الظاهرة السياسية، ومتابعة تأملاته المتعددة والمتباينة بشأنها في مختلف المجتمعات والعصور سواء ما عاش منها في ظل المؤسسات السياسية التقليدية ( المملكة، الإمبراطيورية، الإمارة، الخلافة…إلخ، أو الحديثة كالدولة) .
كما يُعرف الفكر السياسي بأنه ذلك البنيان الفكري المجرد المرتبط بتصوير و تفسير الوجود السياسي و بذلك تكون الأفكار السياسية عبارة عن تصور عقلاني للظاهرة السياسية ، و تمثل صورة الظاهرة السياسية كما يتخيلها الإنسان في مختلف الأزمنة و الأمكنة ، و أنها تقوم على التأمل سواء كان فرديا أم جماعيا و تختلف عن كونها واقع قائم .
إذن ما يمكن استخلاصه أن الفكر السياسي عموما يتضمن هذه المبادئ والنظريات التي تعرض للعلاقة بين الفرد والسلطة وما يستلزم ذلك من دراسة وتفسير ظاهرة السلطة في نشأتها ووجوبها أو جوازها وتطورها، مؤسساتها ووظائفها وعمالها؛ أما الفلسفة: فهي تعني لغة ( حب الحكمة) وتنطوي كنتاج عقلي على تأمل شمولي حول الكون والطبيعة والإنسان؛ أما الفلسفة السياسية: إنما هي حسب تعريف حديث ” محاولة فكرية لمعرفة طبيعة الدولة، أي لمعرفة أسسها الرئيسية؛ إنها ليست علماً موضوعيا لبحث الظواهر السياسية، بل هي محاولة لفهم حياة شعب من الشعوب.
لماذا الفكر السياسي؟
إن كل محاولات الشرح التي إستطردناها قبل قليل لم تكن سوى تمهيدا للإجابة على العنوان الكبير لهذا المقال، ورضاك أو نقدك وإعراضك عما طُرح لن يجدي نفعا، إن لم تقابل كل فكرة بحجة تنقضها، أو برهانا يؤيدها، وهنا تكمن الواحة الحوارية الراقية التي نهدف للوصول إليها، أن تفكر تفكيرا سياسيا، لأنّ التفكير بصفة عامة أو التأمل العقلي، وأيا كان موضوعه ونطاق إهتمامه، لا يمكن أن يكون ترفاً ذهنياً ولا هو بالنشاط المجرد بفعل إستخداماته العملية ونتائجه التطبيقية من جهة، وارتباطه من جهة ثانية بحياة منتجه ” الإنسان” بما يجعل من تفكيره وتأمله انعكاسا لموقفه من بيئته الطبيعية والإجتماعية، وتحديداً لعلاقته بهما، وتعيينا لأسلوب تفاعله معهما؛ وأن الفكر / التفكير شرط لازم للإنسانية وسمة مميزة لها، مثلما أن الإنسانية شرط للقدرة على التفكير، فسيكون المنتج ” الإنسان” ونتاجه الفكري والعملي معاً شيئاً واحدا، وكلا لا يتجزأ، ليكون الفكر والعمل ركنا الوجود الإنساني وشرطَيْ ديمومته بما يجعل الفصل بين هذا الوجود وأركانه، أو بين تلك الأركان، فعل تعسف وقسر ينطلق من فرض لا أساس له في الواقع ولا إمكانية لحدوثه؛ وعليه فإن الطبيعة النظرية المجردة للفكر لا يمكن أن تلغي حقيقة كونه في النهاية وعلى الرغم من كل ما يقال بشأنه نتاجاً إنسانياً، ومن ثم فلا بد لهذا النتاج من أن يعكس خصائص منتجه ” الإنسان” ويعبر عن ظروف حياته ويجسد قيمه ومطالبه وأهدافه؛ وحيث إن “الإنسان” كائن مميز بخصائصه الإجتماعية والغائية والنسبية، فمن البديهي أن تكون كل نتاجاته، وأولها ” الفكر”، حاملة أيضا لهذه الخصائص، وأن يكون كل نتاج إنساني فكري، انعكاساً عقليا لبيئة طبيعية وإجتماعية محددة في عصر معين، وتعبيراً عن روح مجتمعية ثقافية أو حضارية بذاتها وجملة ثوابتها العقائدية والقيمية ومطالبها وأهدافها ورهاناتها المعلنة والخفية؛ لذلك فإن ما ينتجه أي مجتمع من الأفكار، تعبيراً عن ظروفه وخصائصه ومطالبه وأهدافه ورهاناته، لا يمكن أن يتطابق تماثليا مع ما تنتجه المجتمعات الأخرى من الأفكار حتى وإن تشابهت أحيانا بعض مكوناتها، بل أنه لا يتطابق أيضا حتى مع الأفكار التي ينتجها المجتمع نفسه في سياق تاريخي مغاير وظروف اجتماعية مختلفة؛ ويعني ذلك أن الفكر ليس تأملا نظرياً مجرداً منقطعاً عن ظروف الزمان والمكان، ولا قائماً بذاته ولذاته، وأن علاقته بالواقع ليست علاقة ميكانيكية ولا انعكاسية مرآتية، لأن ميكانيكية أية علاقة تعني الآلية من جهة، وبقدر ما تعني من جهة ثانية أن أحد أطراف العلاقة، يؤسس للآخر ويفسره ويؤثر فيه على الدوام،وتعني الإنعكاسية المرآتية أن أحد أطراف العلاقة انعكاس تطابقي للطرف الآخر مثلما تعكس المرآة صور الأجسام، ومن ثم فإن تشوه المنعكس / الجسم يستتبع تشوه الإنعكاس / الصورة، ولا يتفق شيء من هذا مع طبيعة العلاقة بين الفكر والواقع إذ هي علاقة تمفصل وارتباط وتفاعل، يؤثر كل طرف فيها في الطرف الآخر بقدر ما يتأثر به، ويأخذ منه بقدر ما يعطيه.
وفي ضوء ما تقدم، تفترض دراسة الفكر، معالجته في إطار بيئته الطبيعية – الإجتماعية وخصائصها الواقعية التاريخية والتي بدلالتها فحسب يمكن تفسير صيرورة الفكر وصيرورته التاريخيتين؛ ويجد الفكر سبب كينونته وتطوره وتغيره جزئيا وكلياً في علاقة التأثير المتبادل هذه بينه وبين البيئة التي تنتجه، فليست الأفكار سوى استجابات الإنسان العقلية لمطالب بيئته الطبيعية – الإجتماعية وضغوطها وحلوله لمشكلاتها، لذلك لا يمكن من الناحية الموضوعية أن يكون الفكر نفيا للواقع وتأكيدا له في ذات الوقت، لأن أي خطاب فكري هو كل متجانس يتخذ موقفا محددا من واقعه، فإما أن يعكسه ويعبر عنه أو أن يرفضه وينفيه، وتماما مثلما أن العلم ليس تطوراً نمطياً أو نسقياً ثابتا مستقرا ومستمرا لفكرة أصيلة، كذلك الفكر هو الآخر لا يمثل خطاً متصاعداً يتواصل ويغتني على الدوام منذ فجر البشرية وحتى اليوم، وعندما يتخذ الفكر أحيانا صورة خط كهذا، فسيكون بالتأكيد خطاً منحنياً في مواضع ومتعرجاً في مواضع ومنكسرا في مواضع أخرى؛ ويؤسس ما تقدم للقول بتنوع الفكر واختلافه بتنوع بيئاته وإختلاف الوقائع التي يتعامل معها ويتخذ موقفاً منها، مثلما أنه متنوع ومختلف بتنوع واختلاف القضايا والمواضيع التي يهتم بها ويعالجها ويوجه نشاطه نحوها ويتخذ موقفا إسلامي ” و”فكر مسيحي”، بقدر ما يصح الحديث أيضا عن ” فكر إقتصادي ” و ” فكر إجتماعي” و ” فكر سياسي”؛ وتسمح ملاحظة تعدد أبعاد النشاط السياسي وتباين صوره، بإدراك اتساع نطاق ” الفكر السياسي” وامتداد حدوده ليشمل كل الأبعاد والصور النظرية والعملية التي تعكس الظاهرة السياسية وتجسدها في الحياة اليومية للمجتمعات الإنسانية.
أما التفكير في الحقائق فإنه وإن كان لا يختلف عن التفكير في أي شيء، لأن الحقيقة هي مطابقة الفكر للواقع، ولكن لما كان للحقائق وزن ولا سيما الحقائق غير المادية، فإنه لا بد من بيان هذا النوع من التفكير باعتباره يختلف عن التفكير في أي شيء غيره. والتفكير بالحقائق هو جعل الحكم الذي يصدر منطبقاً تمام الانطباق على الواقع الذي نقل إلى الدماغ بواسطة الإحساس، وهذه المطابقة هي التي تجعل ما يدل عليه الفكر حقيقة، وهي إذا كانت حقيقة تتجاوب مع الفطرة تجاوباً طبيعياً؛ فمثلاً: كون المجتمع هو عبارة عن علاقات وناس فيكون هذا واقعه، فحين يجري الحكم على المجتمع ما هو؟، فإن كل الأحكام على واقعه قد جرت على الطريقة العقلية، وهي فكر ولكن كون هذا الفكر حقيقة أو ليس بحقيقة راجع إلى انطباق هذا الفكر حقيقة؛ فالذين قالوا إن المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد، فإنهم رأوا أن الجماعة مكونة من أفراد وأن المجتمع لا يتأتى أن يكون إلا إذا وجد مجموعة أفراد فنقل هذا الواقع إلى دماغهم بواسطة الحواس وفسروه بواسطة المعلومات السابقة فأصدروا حكمهم بأن المجتمع هو مجموعة أفراد؛ فهذا الحكم فكر ولكن مطابقته للواقع وعدم مطابقته هو الذي يدل على أنه حقيقة أم لا، فعند تطبيقه على الواقع يشاهد أن الجماعة في باخرة مهما بلغ عددهم لا يكونون مجتمعاً وإنما يكونون جماعة مع أنهم مجموعة أفراد في حين أن الجماعة الذين يعيشون في قرية مهما بلغ عددهم يكونون مجتمعاً، فالذي جعل القرية مجتمعاً ولم يجعل الباخرة مجتمعاً، إنما هو وجود العلاقات الدائمة بين سكان القرية وعدم وجود العلاقات الدائمة بين ركاب الباخر، إذاً؛ فالذي يكون المجتمع هو العلاقات بين الناس وليس مجموعة الناس، وبذلك يتبين أن هذا التعريف للمجتمع وإن كان فكراً ولكنه ليس حقيقة، وهذا يعني أنه ليس كل فكر حقيقة بل لا بد أن يكون هذا الفكر منطبقاً على الواقع الذي صدر الحكم عليه .
ولكي تتضح الصورة أكثر نذكر على سبيل المثال أن كون الإسلام قوة لا تغلب حقيقة ولكن جرى التشكيك في هذه الحقيقة حتى أصبح الرأي بأن هذا ليس حقيقة أو كان حقيقة في أول الإسلام ثم تغير الزمن فلم تعد حقيقة؛ وهكذا تجري المغالطات في الحقائق فتطمس إما بحقائق أخرى أو بالتشكيك في تلك الحقائق، وهذا ما حذق فعله الغرب في الحقائق الموجودة عند المسلمين .
ومثلاً كون فكرة القومية هي التي زعزعت كيان الدولة العثمانية وكون المسلمين حاربوا الغرب كعثمانيين مسلمين، لا كمسلمين فحسب حقيقة. ولكن انهزام العثمانيين في أوروبا ثم انهزامهم في الحرب العالمية الثانية حدث من أحداث التاريخ، ولكن جعل النظر إلى تاريخ الحروب بين العثمانيين والأوربيين، وتاريخ الحرب العالمية الأولى كله نظرة واحدة وأهملت الحقائق في هذه الحروب أي أهملت حقائق التاريخ. فاختلطت الحقائق بالحوادث، واهملت الحقائق حتى تنوسي كون الفكرة القومية هي سبب الانهزام للعثمانيين في أروبا وفي الحرب العالمية الأولى. وهكذا جميع حوادث التاريخ قد جرى فيها إهمال الحقائق، فلم ينتفع بحقائق التاريخ، مع أن حقائق التاريخ هي أغلى ما لدى الإنسان، وأعلى أنواع الأفكار.
فالتفكير بالحقائق سواء بالوصول إليها أو بتميزها من غير الحقائق، أو بالقبض عليها بيد من حديد والانتفاع بهذه الحقائق هو التفكير المجدي والتفكير الذي يكون له آثار هائلة في حياة الأفراد والشعوب والأمم. وما فائدة التفكير إذا لم يؤخذ للعمل به وإذا لم يقبض على الحقائق ويتمسك بها وإذا لم يميز بين الحقيقة وغير الحقيقة؟
على أن الحقائق هي أمر قطعي وهي ثابتة لا تتغير وهي يقينية قطعية، لا يؤثر فيها اختلاف الظروف ولا تغير الأحوال، صحيح أن الفكر لا يصح تجريده من ظروفه ومن الأحوال التي تكتنفه ولا يقاس عليه قياساً شمولياً، ولكن هذا هو الفكر من حيث هو فكر إذا لم يكن حقيقة، أما إذا كان الفكر حقيقة، فإنه لا يصح أن ينظر فيه إلى الظروف والأحوال مهما تغيرت أو تبدلت، بل يجب أن يؤخذ كما هو بغض النظر عن الظروف والأحوال، لا سيما وأن الحقائق لا تؤخذ بالطريقة العلمية التي هي طريقة ظنية، بل تؤخذ بالطريقة العقلية وبالجانب اليقيني منها، لأنها أي الحقائق تتعلق بالوجود، لا بالكنه ولا بالصفات، فإن انطباق الفكر على الواقع الذي يدل عليه يجب أن يكون انطباقاً يقينياً حتى يكون حقيقة، لذلك لا بد من التفكير بالحقائق ولا بد من القبض على الحقائق بيد من حديد .
لماذا ننشغل بالفكر السياسي؟
يوضح لنا غلين تيندر في إجابته على هذا السؤال حلا نسبيا لبعض المشكلات التي نواجهها في إطلاعنا على الفكر بصفة عامة والفكر السياسي بصفة خاصة من خلال الغوص فيه، ولهذا وجب نقله كما هو حتى لا تذهب ريحه النفعية، فهو يقول في مؤلفه بعنوان الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية:
“إن ردي الأول على ” لماذا ننشغل بالفكر السياسي؟” هو أننا نفعل ذلك للبحث عن ردود لا يتسنى الوصول إليها بأية وسيلة أخرى”.
ولأن الفكر السياسي هو النافذة الوحيدة التي تمكننا من الإطلالة على جزء كبير من الحقائق، كان لزاما علينا أن نخوض فيه، وبما أن التفكير في حد ذاته – كما رأينا – عمل شاق بصفة خاصة ومثبط للعزيمة، وغالبا ما يلاحظ بطبيعة الحال أن التفكير عمل شاق؛ ومع ذلك فإن الشخص الذي ينهمك كلية في عملية التساؤل التي تم طرها في مقدمة الدراسة، سوف يكتشف أن صعوبات التفكير أكثر مراوغة وإثارة لسخط من تلك التي توجد في مجرد العمل الشاق، فهو سوف يجد على الأرجح مثلا، أن محاولة التفكير لن تكون مثمرة تماما في البداية، وحتى تعترف بعدم التأكد – كما ينبغي أن تفعل لكي تفكر – فقد يبدوا أن ذلك سوف يتركك في نوع من الفراغ ليست له آفاق على البعد، أو أية أرضية صلبة تحته، علاوة على أنك ستجد نفسك عرضة لأحلام اليقظة بشكل مزعج، وسوف تميل دائما إلى التفكير في أشياء أخرى غير الموضوع الذي تفكر فيه، وأخيرا سوف تكتشف أن ما ينتجه الفكر هو أشياء غير ملموسة، وغالبا ما تكون هشة، والأفكار التي تطلبت ساعات لكي تظهر، قد تتبخر بسبب بعض الأفكار التي تنافي قولنا هذا.
والشخص المفكر عرضة للإنتقاد بشكل كبير، ومثل هذا الشخص ينبغي أن يظهر أمام الآخرين، ليس وراء ترس أو درع من الكتب التي طالعها وأفكار صاغها غيره، ولكنه يقف عاريا تماما بأفكاره وشكوكه الخاصة به وحده.
وخلاصة القول أن مسالك الفكر ليست كلها جذابة تماماًً، وقد يؤدي اتباعها حتماً إلى الكدح وانعدام الأمان، ولكن ليس بالضرورة إلى إجابات راسخة، أو راحة عقلية.
لماذا إذن – إذا عدنا إلى عنوان هذا الفصل – ننشغل بالفكر السياسي؟
هذا لأن بعض الأسئلة لا يمكن الإجابة عليها بأية وسيلة أخرى .. إذ متى يكون للشخص، مثلاً، حق عصيان السلطة الحاكمة أيا كان إسمها خلافة – إمارة – دولة – ملك؟ وهل يمكن أن تنتهك هذه السلطة بشكل شرعي القوانين الأخلاقية إذا كان يبدوا أن مصلحة الأمة تتطلب ذلك؟ وهل عصيانها يتطلب إصلاحات جذرية أم عقاب جماعي؟ وهل ينبغي إلغاء كل حالات عدم المساواة الإجتماعية والإقتصادية؟ إن هذا النوع من الأٍسئلة لا يمكن الإجابة عليها بدون فكر؛ والمعلومات التي تؤثر عليها قد تأتي من العلوم الإجتماعية، أو من تجربة شخصية، أو من التاريخ أو مصادر أخرى، ولكن الفكر وحده من يستطيع أن يحدد المعلومات المناسبة، ثم يستخدمها في الإجابة على الأسئلة.
ولكي نطرح المسألة بطريقة أخرى، فإننا لا يمكننا أن نتبين الحقيقة وندخل كلية في علاقات معها؛ إن الفكرة نوع من الضوء، ولولا الأفكار السياسية العظيمة لغرقت حياتنا الجماعية في ظلام.
إضافة إلى ذلك؛ فإننا لو كنا راغبين في إلزام أنفسنا بأفكار معينة بصورة غريزية، على ضعف التمييز فإننا لن نستطيع فهمها على الأرجح بدون أن نجرب بعض الكدح والشك الذي بذل في خلقها؛ فما الذي تعميه مثلا فكرة أن الكائنات البشرية متساوية؟ من الواضح أنها ليست متساوية في أية صفة يمكن قياسها، كالذكاء، أو الصحة أو التوازن العاطفي؛ ومن الممكن القول بأنهم متساوون فقط أمام القانون؛ ولكن لماذا يجب أن يمنحوا حقوقاً متساوية أمام القانون إذا لم يكونوا متساوين في أي ناحية في الواقع؟
إذا كان العالم الإسلامي ليس المصدر الأول للثروات العالمية ولكنه المهم، فلماذا لا يقوم هذا العالم بالتمسك بهذه الثروات كمصدر قوة لها وتحقيق إستقلالية عن المنظومة الغربية؟ ولما لا ينتفض العالم في حل قضاياه بمعزل عن العالم الغربي الذي يسعى لمصالحه بدلا من مصالحنا كقضية سورية؟
إن البحث عن هكذا أسئلة، لا تحتاج إلى قراءة كتيبات بقدر ما هي بحاجة إلى التفكير العميق، والفهم الرشيد، والإدراك.. وهكذا كانت إجابة غلين تيندر عن السؤال ” لماذا ننشغل بالفكر السياسي؟” هو أننا نفعل ذلك للبحث عن ردود لا يتسنى الوصول إليها بأية وسيلة أخرى، فالفكر السياسي هو المنفذ الخطير، ولكنه الوحيد والأهم أيضا للوصول إلى غاياتنا، وتقويم واقعنا
وكما يقول غلين تيندر لا بد أن يكون قراء هذا المقال على استعداد لمعاناة كلمات ” نعم” و “لا” التي سوف تحتشد بمجرد أن يقرؤوا سؤالاً، سوف يتطلب تأييداً لجانب أو آخر، ولن يتبدّدَ بسرعة ويتركهم في سلام؛ إن الأسئلة الكبرى للفكر السياسي أزلية لأن الأشخاص الأذكياء على مر العصور لم يجدوا من الممكن أن يقفوا إلى جانب كل الردود بنعم أو بلا؛ ومن أجل تناول الحقائق النهائية التي تشير إليها هذه الأسئلة، يجب أن يكون المرء مستعداً لكي يتحمل بمشاعر مختلطة وذهن منقسم – النضال ضد التناقضات، ولكن أن يتذكر جيداً أن “كل فكر هو محاولة لإكتشاف شيء لا يستطيع الفكر أن يفكر فيه وألا يغيب عن باله أن الفهم لن يأتي في شكل رد واضح جلي؛ وعلى المرء أن يدرك أن أهم الأسئلة التي يمكن أن نسألها لا يمكن حسمها مرة واحدة وإلى الأبد؛ ولا بد أن يكون المرء مستعداً لأن يفكر في تناقضات ظاهرية، وهذا يعني أن يكون مستعداً لكي يتحمل الشك؛ وقد توجد في هذه الحالة الذهنية، دون توقع، أن الشك طريقة للتنوير.
وبعبارة أخرى، فإن القارئ يجب أن لا تثبط عزيمته إذا وجد من المستحيل، من النضال مع أي من الأسئلة التي ستتلو ذلك، أن يستقر على رد واحد؛ وإذا بدا أن هناك سؤالين كلاهما صحيح بشكل متبادل في بعض النواحي، فإن الفكر يكون قد حقق نوعاً من النجاح؛ لقد وجد تناقضاً ظاهرياً، وبدلاً من أن تثبط عزيمة المرء، فإنه ينبغي أن ينظر حوله ويرى ما إذا كانت الحقيقة ليست قريبة المنال.
إن لدينا اليوم قوى مهيبة للعمل، كما يظهر في سيطرتنا على الطاقة النووية، واستكشافاتنا في القضاء، وطاقة إنتاجنا الصناعي، كما أننا نمتلك أيضا مهارات متقدمة للغاية في تجميع وتفسير الحقائق، كما يتضح ذلك بشكل مثير في نطاق العلوم الطبيعية وتنقيتها، وفي الكميات الهائلة من البيانات التي تجمعت بواسطة العلوم الإجتماعية؛ ولكن من المشكوك فيه أننا نمتلك الحكمة؛ ومن ثم فإن حياتنا تمضي في ظل سؤال لا يمحى هو: هل نستطيع أن نجعل قوى العمل لدينا ومهاراتنا في البحث تخدم أي هدف نهائي صحيح؟ إن الخوف الذي ينتشر في عصرنا – الخوف من الحرب، والفقر، والإستبداد، ومن عدد لا يحصى من الشرور الأخرى – يظهر إلى أي مدى نحن بعيدين عن أن نكون قادرين على الإجابة بثقة على هذا السؤال البسيط بالإيجاب.
إنني أفترض أن الحكمة التي تتطلبها طاقات العمل والبحث لدينا لا تكمن في معرفة شيء فوق كل شك، كما نحس أننا نفعل عندما نلتزم بلا تردد بمجموعة من مبادئ محددة ومتماسكة تماماً، ولكن في نوع معين من عدم المعرفة – في شك يعبر عن الشخصية الفردية المستقلة والتفتح للآخرين معاً؛ إننا جميعاً نتوق إلى تأكيد مطلق يتعلق بما هو صحيح وصائب، ونحن نشعر بأن شخصيتنا الفردية وعلاقاتنا تكون معرضة للخطر عندما يكون هذا التأكيد مفتقداً؛ ولكن الشخصية الفردية والعلاقات المعرضة للخطر تكون زائفة، فهي تعتمد تأكد وهمي لا على الفكر؛ ويقوم هذا الإعتقاد على أساس الإفتراض بأننا نحن البشر كائنات مفكرة؛ فمن خلال الفكر فقط تثبت عقلانيتنا، وحريتنا، وولاءنا ، ومن ثم فإننا إذا تعلمنا أن نمعن النظر في الأسئلة بوضوح وعزم وذهن متفتح فإننا نتعلم شيئاً لا يمحى عن الردود الموضوعية – الحكمة والتوازن وعدم التيقن الإنساني .
وفي الختام؛ لا يسعنا سوى القول بأن أمتنا لا تحتاج إلى أجيال ولا إلى مئات السنين لكي تنتفض من رحمها وتخرج للعالم شاهرة نفسها وحاملة لراية رسالتها – الإسلام – بل تحتاج إلى كل فكرة جديرة بالإهتمام، وإلى كل برعم يستحق التوجيه، وكل عمل لأن يثمر في الأمة يحتاج إلى أن نجدد فكرنا وتفكيرنا.
وبما أننا نهدف من هذه الموسوعة إلى نشر الفكر السياسي الإسلامي في الأوساط العامة ليعم كما عم الفكر السياسي الغربي، والإقتداء به من أجل بعث التفكير من جديد وجب أن نبسطه إلى أقصى الحدود، يجب أولا أن نجعلهم يفكرون تفكيرا سياسيا، فكما يقول تقي الدين النبهاني: ” أن التفكير السياسي _ على صعوبته وعلوه _ فإنه في مقدور كل إنسان، مهما كان تفكيره ومهما كان عقله، فالعادي والنابغة والعبقري، كل منهم في مقدوره أن يفكر تفكيراً سياسياً، وفي مقدوره أن يكون سياسياً، لأنه لا يتطلب درجة معينة من العقل ولا درجة معينة من المعرفة، بل يتطلب تتبع الوقائع والحوادث الجارية أي تتبع الأخبار، ومتى وجد هذا التتبع وجد التفكير السياسي، إلا أن التتبع لا يصح أن يكون منقطعاً بل يجب أن يكون متصلاً، لأن الحوادث والوقائع الجارية تشكل حلقة مترابطة الأطراف فإذا فقدت حلقة منها انقطعت السلسلة، أي انفكت الحلقة، ويصبح في غير مقدور الشخص أن يربط الأخبار وأن يفهمها، ولذلك كان بقاء الحلقة حلقة أمراً ضرورياً في التفكير السياسي، أي أن التتبع المتصل شرط أساسي في التفكير السياسي.
والتفكير السياسي ليس خاصاً بالأفراد، بل هو كما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، أي يكون في الشعوب والأمم، فهو ليس كالتفكير الأدبي ولا كالتفكير التشريعي، إنما يتحقق بالأفراد فحسب، ولا يتأتى أن يكون في الجماعات، فهو فردي، بل التفكير السياسي تفكير فردي وتفكير جماعي، وكما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، فيكون في الشعوب والأمم، كما يكون في الأفراد من حكام وسياسيين؛ بل إنه لا يكفي أن يكون في الأفراد، بل يجب أن يكون في الشعوب والأمم، وبدون وجوده في الشعوب والأمم لا يوجد الحكم الصالح، ولا يتأتى وجود النهضة، ولا تصلح الشعوب والأمم لحمل الرسالات، ومن هنا كان لا بد أن يوجد التفكير السياسي في الشعب والأمة، ذلك أن الحكم إنما هو للشعب أو الأمة، وكامن في الشعب والأمة، ولا تستطيع قوة أن تأخذه إلا إذا أعطاه الشعب والأمة، وإذا حصل اغتصابه منها فإنه إنما يغتصب لفترة، فإما أن تعطيه فيستمر أو تصر على استرجاعه فيطاح بالحكم، وما دام الحكم هو للشعب والأمة أو كامن فيها، فإنه لا بد لهذا الشعب وهذه الأمة من أن يكون لديها التفكير السياسي، ولذلك فإن التفكير السياسي هو ضروري للأمة قبل الحكام، وضروري لاستقامة الحكم أكثر من ضرورته لإيجاد الحكم، ومن هنا كان لا بد أن تثقف الأمة أو الشعب ثقافة سياسية، وأن يكون لديها التفكير السياسي، أي لا بد أن تزود الأمة بالمعلومات السياسية والأخبار السياسية، وأن يُنمّى لديها سماع الأخبار السياسية، ولكن بشكل طبيعي لا بشكل مصطنع، وبإعطائها الصحيح من الثقافة السياسية، والصادق من الأخبار، حتى لا تقع فريسة للتضليل؛ ومن هنا كانت السياسة، والفكر السياسي والتفكير السياسي، هي التي تُوجِد في الشعب أو الأمة الحياة، أي كانت السياسة هي التي تحيا بها الأمة، وبدون ذلك تكون جثة هامدة لا حركة فيها ولا نمو .
قائمة المراجع والمصادر
الكتب:
1. غلين تيندر، الفكر السياسي: الأسئلة الأبدية، تر: محمد مصطفى غنيم، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 1993.
2. جاكلين روس، مغامرة الفكر الأوروبي: قصة الأفكار الغربية، تر: أمل ديبو، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2011.
3. جون بانيل بيورى، حرية الفكر، تر: محمد عبد العزيز إسحاق، المركز القومي للترجمة، القاهرة 2010 .
4. عبد الرضا حسين الطعان وآخرون، موسوعة الفكر السياسي عبر العصور، الرابطة العربية الأكاديمية للفلسفة، إبن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، 2015.
5. ساكري البشير، أن تكون مثقفا أو مفكرا..!، دار النور، 2016.
6. عباس محمود العقاد، التفكير فريضة إسلامية، نهضة مصر للطباعة والنشر.
7. تقي الدين النبهاني، التفكير، ط1، منشورات حزب التحرير، 1973.
8. محسن مهاجرنيا، دراسات في الفكر السياسي لمسكويه الرازي: قراءة في تكوين العقل السياسي الإسلامي، تر: حيدر حب الله، الغدير للنشر والتوزيع، بيروت – لبنان، 2004.
المواقع الإلكترونية:
1. المعجم الوسيط، تعريف ومعنى الفكر السياسي، اللغة العربية المعاصرة، نقلا عن موقع:
http://www.almaany.com/ar/dict/arar
2. يوسف القرضاوي، مفهوم كلمة السياسة في القرآن والسنة، نقلا عن موقع:
http://articles.islamweb.net/Media/index.php?page=article&lang=A&id=191284
3. علي بن نايف الشحود، مقالات الدكتور الشيخ عبد الكريم بكار، ص: 30، نقلا عن موقع:
http://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%81%D9%83%D8%B1/
4. تيم بين، الحقيقة الخفية للأفكار، تر: لبنى عماد تركي، مؤسسة هنداوي للنشر، 13/02/2014 نقلا عن موقع:
http://www.hindawi.org/safahat/63073716/
5. معجم المعاني الجامع، فكر، نقلا عن موقع:
http://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D9%81%D9%83%D8%B1/