لماذا يكذب القادة ؟ .. حقيقة الكذب في العلاقات السياسية الدولية
يتأسس كتاب ” حقيقة الكذب في السياسات الدولية ” على ركيزة أساسية، مفادها أن ثمة أنواعا مختلفة من الخداع في إطار الممارسة السياسية. ولكن وفقا للشواهد التاريخية، يذهب المؤلف إلى أن رؤساء الدول أكثر ميلا للكذب في إطار العلاقات مع الدول الأخرى منه في السياسات الداخلية. وربما السبب وراء ذلك هو معادلة التكلفة والعائد.ويستهل “ميرشايمر” الفصل الأول من كتابه بمحاولة تعريف الكذب باعتباره أحد الأفعال التي تقع في إطار منظومة الخداع، ويفرق الكاتب بين الكذب والخداع. ونسج القصص، وحجب الأدلة والمعلومات.
أنواع الكذب:
أما الفصل الثاني، المعنون بـ “اختلاق الأكاذيب الدولية”، فيعرض لسبعة أنواع من الكذب. النوع الأول: نشر الخوف بهدف خدمة الصالح العام، الثاني: الكذب بين الدول المتنافسة، الثالث: التغطيات الاستراتيجية لتغطية فشل في إحدي السياسات بهدف عدم الإضرار بالدولة، مثل الكذب على الشعب بشأن درجة الكفاءة العسكرية في وقت الحرب، الرابع: خلق الأسطورة القومية، والهدف من هذا النوع من الأكاذيب هو خلق نوع من الهوية الجماعية بين أفراد الشعب، “نحن” في مقابل “الآخر”.
أما النوع الخامس من الكذب ،فهو الأكاذيب الليبرالية التي بموجبها قد تخوض حربا لأسباب أخلاقية، والسادس: الإمبريالية الاجتماعية التي تهدف للالتفاف حول الحاكم،ولكن بغرض تحقيق مصلحة ذاتية. أما النوع الأخير، فيتعلق بالكذب من أجل تغطية الفشل في السياسات، ولكن لأغراض ذاتية. وعلى الرغم من أن هذا الفصل مخصص لدراسة وتحديد هذه الحالات، فإن المؤلف أفرد الفصول الرابع والخامس والسادس والسابع لدراسة كل من نشر الخوف، والتغطيات الاستراتيجية، واختلاق الأسطورة القومية، والأكاذيب الليبرالية على وجه الترتيب.
وفي الفصل الثالث، يحاول المؤلف تفسير الكذب، وذلك بالتعويل على الاقتراب الواقعي في دراسة العلاقات الدولية، حيث يتسم النظام الدولي بالفوضوية وعدم وجود سلطة عليا، بمقدورها الفصل في النزاعات التي تنشأ بين الدول. علاوة على ذلك، فقد يلجأ صانع القرار إلى السرية كأحد الأساليب التي تمكنه من المراوغة والمراهنة على عنصر الوقت. وميز ” ميرشايمر” بين احتمالات الكذب في حالتي السياسات العليا والسياسات الدنيا، والتي تكون أعلي في الأولي منها في الثانية.
متى وكيف يكذب القادة؟
ثمة طرائق مختلفة ينتهجها القادة عندما يكذبون، لخصها الكاتب في عشر طرق. تتمثل أولاها في تعظيم قدرات دولهم بغرض ردع الخصم، مثلما حدث خلال الحرب الباردة، عندما ادعي الاتحاد السوفيتي إطلاقه قذائف صاروخية عابرة للقارات للمرة الأولي، كانت لمدي أكبر مما لدي الولايات المتحدة، مما جعل الأخيرة تستشعر حالة من الضعف الاستراتيجية (والعكس كان هو الصحيح).
أما الثانية، فهي نشر الأكاذيب بغرض تهوين القدرات العسكرية، أو إخفاء سلاح بعينه. والكاذب في هذه الحالة عادة ما يسعي إلى تجنب إثارة الرأي العام الدولي تفاديا لضربة تأتي على ما يملك من قدرات وإمكانيات، أو لتثبيط همة الخصم عن تغيير استراتيجيته، وتعزيز دفاعاته، ومثالها الكذب الإسرائيلي على إدارة كيسنجر بشأن مفاعل ديمونة في ستينيات القرن الماضي.
أما الثالثة، فتتعلق بالتقليل من حدة الكراهية المضمرة لخصم بهدف تفادي ضربة أو هجمة محتملة. والمثال الأكثر تعبيرا في هذه الحالة هو ما ذهب إليه هتلر من ادعاء التزامه بالسلام في الفترة الممتدة من 1933 إلى .1938 في حين ترتبط الرابعة بالتهوين من نياتها العدائية إزاء دولة أخري، تفاديا لسلوك لا حاجة له. أما الخامسة، فتتعلق بالتهديدات الجوفاء التي تستهدف تغيير سلوك الدولة الأخري، وإن لم تقدم على ما ادعت، مثلما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية تجاه القذافي في أغسطس 1986، عندما أعلنت نيتها توجيه ضربة عسكرية.
وتهدف الطريقة السادسة من الكذب لدفع دولة لمهاجمة الدولة المعنية أو دولة أخري (السلوك البسماركي بعد معاهدة فرنسا- بروسيا 1870). وتحدث السابعة، عندما تشعر دولة بأن الدول الحليفة لا تولي اهتماما لازما للدول المعادية لها، فإنها قد تنسج الأكاذيب حول قدرات تلك الدولة المعادية ونياتها لتجعل حلفاءها يستشعرون خطر الأخيرة (بوش وإدارته في 2005، عندما أثاروا حفيظة الصين واليابان ضد كوريا الشمالية).
وتهدف الطريقة الثامنة إلى تسهيل التجسس وأعمال التدمير في وقت السلم، وتعسير إثبات الإدانة بالقيام بهذه الأعمال، متي تشكك المجتمع الدولي، وهو ما أقدمت عليه إسرائيل في 1954، عندما حاولت إفساد العلاقات بين مصر من جانب والولايات المتحدة وبريطانيا من جانب آخر.
ويكون الهدف من الطريقة التاسعة الكذب للحصول على ميزة استراتيجية في العمليات العسكرية خلال الحرب. وأخيرا الكذب بهدف تحقيق أعلى عائد للدولة، وتحسين وضعها في حالة التفاوض وإبرام المعاهدات، وهو ما فعلته اليونان للدخول في منطقة اليورو، عندما كذبت بشأن حجم العجز في الميزانية.
سلبيات الكذب:
وعلى الرغم من أن الميل إلى الكذب في العلاقات الدولية هو سلوك ذرائعي بالأساس، فإنه يرتب آثارا سلبية تتراوح ما بين ارتداد الأثر السلبي على السياسات الداخلية للدولة التي قامت بالكذب، أو ارتداد هذا الأثر السلبي عليها، ولكن في نطاق السياسات الخارجية، وهو ما يتناوله المؤلف بالتفصيل في صفحات الفصل الثامن تحت عنوان “سلبيات الكذب الدولي”.
وينتهي المؤلف في هذا الفصل إلى تأكيد أن عواقب الكذب الدولي تنعكس سلبا على داخل الدولة أكثر منها في السياسات الخارجية، وذلك لأنها تقوض حرية المواطن على الاختيار- لاسيما في دول ديمقراطية تري في سياساتها الداخلية سوقا للأفكار- وتعيق عملية صنع القرار. إضافة إلى ذلك، متي تفشي الكذب في دولة ديمقراطية، فقد مواطنوها الثقة فيها، وآثروا أن يكونوا تحت حكم أي شكل آخر من أشكال الحكم السلطوي.
ويختتم الكتاب بالفصل الخامس بفكرة، مفادها أنه انطلاقا من أن القادة الذين يقومون على ديمقراطيات أكثر ميلا للكذب على شعوبهم، من أجل خوض حرب اختيارية، فإنه من المحتمل أن تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في التدخل في شئون الدول الأخري في الأمد المنظور، وربما يلجأ قادتها بكثرة إلى ادعاء الخوف، لاسيما أن الولايات المتحدة الأمريكية أصلا آمنة، حيث تنفق على جيشها ما يعادل إنفاق دول العالم مجتمعة، ولديها أكبر ترسانة نووية ممكنة، ومن ثم فما يتبقي لديها، استجابة لتطلعاتها العالمية، هو إقناع شعبها بأنهم في خطر محدق. وبالتالي، فإن ادعاء الخوف سوف يكون السمة المميزة لخطاب الأمن القومي في المستقبل القريب.