قامت جريدة ال independent البريطانية بنشر مقال حول جديّة الآلام المرافقة للعادة الشهرية للنساء والمتحولين (transs)، طارحا السؤال الجرىء عن الأسباب التي أدت إلى إهمالنا لهذه الحقيقة في المجال الطبي طوال هذه السنوات. توّسع المقال ليعطي أمثلة عن الإستخفاف بالعادة الشهرية من قبل الأطباء، حيث ينتظر الرجال الذين يعانون من آلام في الصدر حوالي 49 دقيقة لتلقي المساعدة او الإستشارة، بينما تنتظر النساء اللواتي يعانين من آلام الحيض ما يعادل ال 65 دقيقة بشكل عام، وذلك بالرغم من أن عوارض وآلام الإثنين متشابهة في معظم الأحيان.
لماذا يتمّ إذا الإستخفاف بمعاناة النساء بالرغم من المعرفة الشبه كاملة بالألم الناتج عن العادة الشهرية؟ يحاول المقال الإجابة بأن هذا الإستخفاف يعكس البيئة الذكورية التي يُمارس خلالها العمل الطبي، حيث تحدّد الأحكام المسبقة الذكورية كيفية تصرّف الأطباء مع المرضى. فالمرأة في أغلب الأحيان تُصور على أنّها درامية، تُمثّل الألم ولا تظهره على حقيقته “البسيطة”، بينما الرجل القويّ الذي يتحمّل الصعاب لا يمكنه تمثيل الألم، وبالتالي فإن أقواله ووصفه للعوارض المرضية يؤخد بعين الإعتبار دائما ويُعامل بجدية ومراعاة على عكس توصيف النساء. هذا كلّه يذكرنا بأصول تلك الأحكام المسبقة وتجذرها في الطب، خاصة في حالة الهستيريا – أي المرض النفسي العصابي المسمى ب “الهراع” – التي انشق اسمها من كلمة hystericus اليونانية والتي تعني الرحم. فهذا المرض قد رُبط بالنساء حتى أواخر القرن التاسع عشر، ووصَف حالات تحويل الآلام النفسية الى أوجاع جسدية بالمبالغة الدرامية المتعلقة بإضطرابات في رحم المرأة، مما يسبب الهسترة. كان تعامل الأطباء النفسيين مع هذه الحالة مبني على ضبط تصرفات المريضة من خلال الترويض، وكانت الطاعة من قبل المريضة من أساسيات العلاج. ولم يعتمد الأطباء آنذاك على الحوار والإستفسار من مرضاهم عمّا يؤلمهم حقّا، فهؤلاء المريضات نساء لا يتعاطين بعقلانية ولا يمكن إستشارتهن بما يتعلق بصحتهن بسبب عدم اتزانهن أصلا حسب الأطباء. هذه العلاقة بين المريضة المطيعة المصابة بالهستيريا والطبيب المتزمت الآمر عكست وجذّرت صورة العلاقة بين الجنسين: تنصاع النساء للأوامر وتخضعن لسلطة الرجال دائما. كلمة هسترة لا تزال تُستخدم حتى اليوم لوصف النساء اللواتي يبالغن في التعبير عن آلامن، لا بل حتّى عن مشاعرهن، فيقلقن صورة المرأة الهامدة.
ما يظهره المقال لا يقف عند حد ظاهرة التقليل من شأن الأمراض المتعلقة بالنساء، وخاصة في حالة العادة الشهرية، بل هو يفتح لنا آفاقا لمسائلة الطب الحديث عن كيفية تعاطيه مع جسد المرأة كمرآة تعكس توقعات المجتمع والدولة منها. كلّما زادت حدّة الذكورية والبطركية في مجتمع ما، كلّما تماشى الطب معها ليعاونها ويكن حليفا لها في مراقبة وضبط أجساد نساؤه. هذا الأمر ينطبق في عدة مجالات متخصصة بالمرأة وجسدها، خاصة فيما يتعلّق بغشاء البكارة والإجهاض.
عذرية النساء تكتسب طابع التركيب الإجتماعي الذي يتغير مفهومه من مجتمع الى آخر، وفي أغلب المجتمعات البطركية، العذرية للمرأة ترتبط إرتباطا وثيقا بغشاء البكارة. هذا الربط بين الإثنين يلغي كل أنواع الممارسات الجنسية غير المغايرة او التي لا تعتمد على الولوج بشكل أساسي، كما يخلق فكرة غير صحيحة كليّا عن تأثير العلاقة الجنسية على جسد المرأة والتوقعات التي يحتمها هذا الأمر على المرأة غير المتزوجة والشريفة الطاهرة في آن معا. فمن الشائع، والغير صحيح، أن المرأة البكر عليها أن تنزف دما في أول علاقة جنسية، كما عليها أن تتألم، وهذا التصوير يجعل غشاء البكارة طبقة سميكة تغلق باب الرحم كليا، وهو خطأ شائع أيضا. تلك المفاهيم غير الصائبة عن العذرية وغشاء البكارة ترفع من قيمة تقاليد بالية في الأرياف في بعض البلدان العربية والمسلمة، كإنتظار أهل العروسين لشقفة قماش مطلية بالدم في أول ليلة للمتزوجين سويا. تلك التقاليد وغيرها تؤدي في الكثير من الأحيان الى جرائم شرف قد تكون أساسا واقعة على أسس ضعيفة وناتجة عن قلة وعي. يتحمل مسؤولية تعميم هذا الوعي كل من يعمل في مجال الطب ولا يزال يشارك في عملية تشييع المعلومات الخاطئة.
تنتشر إزاء ذلك عمليات إعادة “ترميم” غشاء البكارة، وفي بعض الأحيان تطلب تلك العمليات نساء لم يقمن بعلاقات جنسية قبل الزوج ولكن علمن حسب إستشارتهن لأطباء بأنهن لن ينزفن كثيرا في ليلة “الدخلة”. أما الرجال، فهم في حال قاموا أو لم يقوموا بعلاقات جنسية قبل الزواج، يبحثون عن إمرأة لا تزال تحافظ على غشاء بكارتها. تسمّي فاطمة المرنيسي هذه الحالة بالشيزوفرانيا الإجتماعية، حيث يفعل الرجال ما يريدون من علاقات قبل الزواج مع العدد الذي يريدونه من الفتيات، وفي النهاية يتوقعون أن يكسبوا إمرأة لم يلمسها غريب من قبل. يدخل الطب من بين كل هذا من خلال تعاطي الأطباء مع عمليات إعادة “ترميم” هذا الغشاء، وأضع ترميم بين قوسين لأن الكلمة توحي بأن تدمير هذا الغشاء يؤدي الى حالة مرضية أو غير طبيعية يجب معالجتها، بينما هو في الحقيقة ليس هنالك أي معنى أو فائدة طبية لهذا الغشاء بعد البلوغ، وبالتالي ضرورة “ترميمه” تعود لأسباب إجتماعية ذكورية بحت. فمن خلال بحث قامت به ديليك سيندأوغلو عن الجراحة العذرية مع أطباء أتراك، لاحظت إنقسام أرائهم حول العملية إلى ثلاث مقاربات. المقاربة الأولى تقليدية وتستمد قوتها من الأفكار الإسلامية التي لا تقبل بالعلاقة الجنسية خارج إطار الزواج، فيرفض أصحاب هذة الأفكار إجراء العملية متذرّعين بعدم قانونيتها. المقاربة الثانية تعتمد على أيديولوجيا الجندر الليبرالية المبنية على فكرة إرضاء النساء لشهوات الرجال مع المحافظة على النفاق الإجتماعي. فهؤلاء الأطباء يقبلون بقيام العملية لأنهم يتفهمون واقعية الأمر وفي الذات نفسه يعتبرون القيام بها واجب لحماية النساء من القتل والتهميش (كما يمكن أخذ المحفز المالي الباهظ في عين الإعتبار هنا). أما المقاربة الثالثة والأخيرة فهي للأطباء الذين يرفضون القيام بتلك العمليات ولكنهم يشجعونها. فهم يتعاطفون من النساء اللواتي يطلبن العملية ولكنهم لا يريدون المجازفة. كما تناول البحث موضوع إختبارات العذرية حيث قال جميع الأطباء أنهم سيجرون هذا الإختبار اذا طُلب منهم، وقد تحجج بعضهم بحالات التحرش والإغتصاب التي ممكن أن تحتم مثل هذا الإختبار. تستخلص الباحثة من النتائج بعض النقاط المهمة: الأطباء هم نتاج النظام الإجتماعي القائم، وبالتالي، اذا كان هذا النظام قائم على السلطة الأبوية، فهم يعيدون إنتاج قيم هذا النظام من خلال ممارساتهم الطبية وارائهم التي تؤيد قيمة العذرية بشكل أو بآخر.
أما الإجهاض، والذي يعتبر الصفعة الأقوى الموجهة الى الهيمنة الذكورية، فقد أصبح وسيلة سياسية للتحكم والتصرف في جسد المرأة حسب أهواء الرجال في السلطة، الأمر الذي ينعكس مباشرة على تعاطي الطب معه. فكما كان الإنجاب تاريخيا أداة قوة في يد المرأة، أصبح هو الآخر إمتياز يفعل الرجل المستحيل من أجل إكتسابه لأسباب إقتصادية. لذا بات من الضروري أن يلجأ الرجال اليوم الى شتّى الطرق لتقويض جنسانية المرأة، وحق الإنجاب (أو عدمه) يشكل جزءً لا يتجزأ من هذه العملية. فالقانون اللبناني، على سبيل المثال، لا يعترف بحق المرأة في تقرير مصيرها إزاء الإنجاب، وهو يجرّم، نتيجة ذلك، الإجهاض إلا في حالة واحدة، وهي حالة ضرورة هذا الإجهاض لإنقاذ حياة الأم. فيحاسب قانون العقوبات المرأة التي تقوم بعملية الإجهاض بنفسها أو لديها نية القيام بذلك بالحبس إلى مدة أقصاها 3 سنوات، ممكن أن تُخَفَّف إذا كان “شرف” المرأة على المحك. كذلك يُعاقِب القانون الطبيب الذي يقوم بعمليات إجهاض للنساء بنفس المدة التي أقصاها 3 سنوات مع أعمال شاقة. لا يعترف القانون بحق المرأة بأخد القرار في حال الحمل، كما يعتمد بتعريفه للحمل على رأي الطب السائد بإبتدائه لحظة التلقيح. ونعود هنا إلى آالية تعاطي الأطباء مع النساء اللواتي يبحثن عن من يخلصهن من عبء الحمل لأي سبب كان وخلال الفترة الآمنة للقيام بالعملية، فيجدن أنفسهن ضحايا القانون الذي يتبع تجريمه للعملية إرتفاع بالأسعار، وضحايا السوق الحرة التي تدفع الأطباء للقيام بالعملية لا من أجل المساعدة، بل من أجل كسب أموال لكان سيكسبها غيرهم من الأطباء على كل حال.
بشكل او بآخر، يعمل الجهاز الطبي كوسيلة في يد الدولة للسيطرة على أجساد النساء، فيعكس السلطة الأبوية من خلال تعاطيه مع كافة شؤون المرأة. فنجد أنه في حالة العادة الشهرية، يتم التقليل من شأن آلام هذه التجربة الدورية لمعظم النساء بالرغم من إشارة جميع المعطيات إلى عكس ذلك، فتبقى النساء بلا حجة طبية حقيقية لأخذ إجازات عمل أو خدمات مجانية خاصة بآلامهن مغطاة من قبل شركات التأمين والضمان وغيرها. وفي حالة غشاء البكارة، تركز مؤسسات الدولة الذكورية على أهمية العذرية لمحاربة النساء في صراعهن للتحرر والإستقلال، فتستخدم الجهاز الطبي لإنتهاك أجساد النساء يوميا في المظاهرات والسجون لتلفيق تهم الدعارة والإنحلال الأخلاقي، وبالتالي تستفيد من الثقافة الذكورية المهيمنة للتقليل من شأن أي قضية تقف من أجلها المرأة، ويستفيد الأطباء بدورهم من إختلاس أسعار خيالية لإعادة إنتاج المعايير الجنسية المزدوجة. أما في حالة الإجهاض، فتستبدل الدولة الخدمات التقليدية للنساء بخدمات طبية حديثة وإجبارية، فتمنع عن النساء حرية إختيار الإجهاض وأساليب منع الحمل وغيرها من الخيارات التي كانت متوفرة سابقا مع “الدايات”، وتجعل من أجسادهن مصدر رزق لأطباء يمارسون “إجرامهم” بسريّة وخطورة خلف الأبواب.