تعد السياسة الخارجية الأمريكية من أذكى سياسات العالم ، بل تعتبر منارة تستضيء بها السياسات الفتية (من ناحية النتائج المحققة وليس من الناحية الأخلاقية فالسياسة أبعد ماتكون عن تلك النقطة) !! وذلك أن تغاضينا عن فداحة السياسة الأمريكية وأثرها التخريبي في عالمنا العربي ، ولكن لنأخذ الموضوع بشكل عام أو لننظر بأعين الشعب الأمريكي لسياسة دولته .
يودع البيت الأبيض بعد عدة أيام أوباما الذي حقق تقريبا معظم الوعود التي أبرمها مع الشعب خلال الحملة الأنتخابية وأهمها تمرير قانون الضمان الأجتماعي ، ليستقبل (البيت الأبيض ) ترامب الرجل المشاكس صاحب التعليقات الشاذة والذي واجه فوزه بالرئاسة عدة أنتقادات من الداخل والخارج وسوف نتطرق إلى هذا الموضوع في هذا المقال لاحقا .
ولنسرد قليلا ميزات أوباما لمعرفة خلفية هذا الرجل ، فهو شخص هادىء الطباع ، ينتمي للأصول الأفريقية ، حاصل على جائزة نوبل للسلام لمجرد أنه قال في إحدى الجامعات المصرية في أول زيارة له لبلد عربي ”السلام عليكم” ، المحب لعائلته ، المتردد والرافض لزج جنود بلاده في الصراعات المشتعلة في الشرق الأوسط بل أقتصر الأمر على خبراء بأعداد قليلة محمية جوا وأرضا وبحرا ، فأن جميع تلك السجايا السمحة لم تجلب للعرب سوى الدمار والخراب و على عكس ماتمنى العرب بعد فوزه بالأنتخابات ، والأن جاء دور ترامب ، ولكن الأمر سيان !! ولست أعول على تغيرات جذرية بالسياسة الأمريكية بالنسبة للشعوب العربية ، فمن البديهي أن لا يتغير الوضع من السيء إلى الجيد بالنسبة للعرب مهما يكن أسم الرئيس الأمريكي أو توجهاته أو تطلعاته ليس بالتفاوض أو بالتمني ، فالحديقة العربية عبارة عن منطقة لتصفية الحسابات مع اللاعبين الأخرين وهي الخزنة المشرعة الأبواب من النفط والمال .
ويجدر التنويه خنا بأن الرئيس الجديد مطالب بعدة أمور لتدارك الوضع الأقتصادي الأمريكي المزري فحجم الدين الفيدرالي لحكومة الولايات المتحدة تجاوز عتبة 19 ترليون دولار وبالتالي فالخزينة غير قادرة على ضخ أموال في سبيل حروب مستقبلية ، كما يجب على الرئيس الجديد الأيفاء بالألتزامات الموقعة مع الحلفاء مقابل التسهيلات في تواجد قواته ضمن أراضيهم أو مقابل الفؤائد المالية التي تتلقاها الخزينة عبر سندات أيداع أو لجيوب الشخصيات السيادية في الملعب السياسي الأمريكي ، وهنا تبرز حقيقة أمتناع أوباما عن المشاركة الفعلية في الحرب السورية والأكتفاء بالعمل خلف الكواليس أو عبر أروقة مجلس الأمن ، بل أن تبدل سياسة أمريكا من أستقبال النعوش والتوابيت لجنودها المقتولين في العراق وأفغانستان إلى سياسة إيجاد وكلاء للقيام بتلك العمليات ليست قفزة أنسانية أو أنجاز حقيقي يذكر لأوباما ، على العكس فسياسة أمريكا التزمت الحياد والصمت تارة والصراخ الغير مجدي تارة أخرى في الملفات الساخنة في كثير من الأحيان لعدة أسباب منها ..
١- عدم رغبة الشعب الأمريكي في أرسال أبنائهم لحروب يعتقدون بأن لاطائل منها على الرغم بأن ١% من الشعب الأمريكي شارك مع الجيش في الحروب الحالية ولكن يعتقد المحللون في حال أزدياد هذه النسبة فأن الشعب سيكون متابعا لما يحدث بدقة ، ويجدر التذكير هنا بحدوث مظاهرات كثيرة جدًا في مدينة نيويورك قبل بدء الحرب على العراق، بالإضافة للمعارضة الشديدة للغزو الأمريكي في الصحف الليبرالية .
٢- عدم أمكانية صرف مبالغ طائلة لتلك الحروب على أثر تفاقم الدين الأمريكي والمتطلبات الداخلية المتزايدة للجنود المرسلين إلى مناطق الصراع وماتبعه هذا الملف من عقبات متلاحقة ، حيث عانى أغلب الجنود العائدين من ساحات المعارك من نكسات نفسية وقيام أعداد لابأس بالأنتحار مما فرض على الرئيس أوباما والفئة التي تدير دفة السياسة الأمريكية التخلي عن تلك الفكرة وأستبدالها أن دعت الضرورة بضربات جوية محددة الهدف والمدة ، أما عن ترأس الولايات المتحدة للتحالف الدولي في محاربة داعش فهو مدفوع الأجر من قبل بعض الدول العربية وأن المشاركة الأمريكية ليست الوحيدة والأشمل حيث هناك مشاركات أوربية كثيرة في تلك العمليات العسكرية ويقتصر الدور الأمريكي على الضربات الجوية فقط وبعض العمليات العسكرية الخاطفة على عكس الحشود الأمريكية الكبيرة في الحرب العراقية .
أذا أوباما أو ترامب رئيسا للولايات المتحدة فالأتجاه واحد !! ومهما كانت الخلافات شاسعة بين أوباما وترامب و تطفو على السطح من حين إلى أخر ليتلقفها الأعلام كوجبة دسمة لكن يجب التركيز بأن هناك ثوابت وتوجهات محددة لكل رئيس أمريكي لايستطيع تجاوزها ، كتقديم المساعدة لأسرائيل وأبقاءها الأقوى عسكريا في المنطقة ، وإنما حركة أوباما البلهوانية في مجلس الأمن وعدم أستخدام حق النقض لأبطال قانون أيقاف الأستيطان فأني أعتقد بأنها حيلة مدروسة من قبل اللوبي الصهيوني الأمريكي المتحكم بزمام الأمور في بلاد الهوت دوغ ، حيث أوباما قام بضرب العلاقات الثنائية المتينة مع أسرائيل مما شكل صدمة على الصعيد السياسي العالمي وجعل العرب يفرحون قليلا ليأتي ترامب في الفترة القادمة ليقدم تسهيلات كبيرة لأسرائيل كرسالة أعتذار عن موقف أمريكا ، كنقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة على سبيل المثال يعني أعتراف أمريكا رسمياً بأن القدس عاصمة للدولة اليهودية بعد التوقف عن الحديث حول ذلك الأجراء على أعقاب ردات الفعل المنددة والرافضة .
ومن الأمور الأخرى التي يتفق عليها جميع من يتسلم مقاليد الرئاسة الأمريكية هو أستنزاف العرب أقتصاديا من خلال فرض أتاوات من أجل الحماية ضد عدو قام الأمريكان بأنشائه لأرغام الأصدقاء على طلب المساعدة وشراء صفقات الأسلحة بمئات المليارات مما يدعم الخزينة الأمريكية ، والخطة الأخرى المرسومة للعرب هي ذرع بذور الشقاق وإيجاد الأساليب العملية التي تدفع العرب للأقتتال فيما بينهم بل وتفرضه عليهم !! كأحياء الخلاف بين الشيعة والسنة ، وأنشاء داعش لخلط جميع الأوراق وجعل جميع الطوائف والفئات تشعر بالذعر من بعضها الأخر لتتمكن أمريكا بالمحصلة من فرض ماتراه مناسب .
وعلى الصعيد الخارجي فأن السياسة الأمريكية حاليا تتلخص بإيجاد وكلاء ليقوموا بتنفيذ المخططات الأمريكية عن علم أو بدون علم ، فعلى سبيل المثال تقديم المساعدة للجانب الكردي بالأسلحة المتطورة وبالمعلومات الأستراتيجية التي مكنته من الوصول إلى شمال مدينة حلب ليقف موضع شبر واحد من الأصطدام مع الجانب التركي أو التراجع للتموضع في أماكن أبعد قليلا لتشكيل هاجس لدى اللاعب التركي الرافض تماما وجود العناصر الكردية على حدود الدولة التركية فتستعمل الورقة الكردية بأيدي اللاعب الأمريكي للضغط على الجانب التركي ، أو لدفع الطرفين للتصادم المباشر أن لزم الأمر دون أن يكلف البنتاغون سوى معلومات أستخباراتية فقط . ومن هذا المنطلق يمكن أسقاط جميع تعاملات أمريكا في معظم الملفات ، وهي إيجاد البديل كسياسة حتمية وليست خيار يمكن مناقشته .
ولتكون الصورة أوضح عزيزي القارىء ، فعندما يطلب من أمريكا إيقاف المد الشيعي في دول الشرق الأوسط وتتقاضى لقاء ذلك مبلغ مئة دولار (مثلا) لتقوم بأنشاء تنظيم داعش ( أصبح من المعيب التحدث عن دور أمريكا في نشأة داعش بعد التصريحات العلنية من قبل عدة جهات دولبة ومن قبل ترامب أيضا بدور البيت الأبيض بذلك )
لتكون (داعش ) حركة سنية تقاتل الشيعة وتحفظ حقوق السنة ، وتستخدم أمريكا لتلك الفاية جزء من المبلغ أو المبلغ كله ، ويتصاعد دور هذا التنظيم في الأوساط السنية ليأخذ حجمه الطبيعي ضمن تلك الحاضنة البيولوجية ويتمكن من تدوير عنفة أقتصاده ليكتفي ذاتيا ، ويقوم بعد ذلك بقتل الجميع ليصبح تنظيم متطرف عالميا ويشكل حالة رعب لدى الجميع !! فهنا تعاود جميع الأطراف واللاعبين الدوليين بالتوجه الى أمريكا للقضاء على التنظيم وخاصة بعيد الضربات الأرهابية بالدول الأوربية لتفتح أمريكا أدراجها لتتلقى الأموال ولتفرض أجندتها على تلك الدول . تلك هي سياسة أمريكا ، أستخدام القوة الخفية أو خلق فيروس لاأحد يملك العقار الشافي منه سوى البيت الأبيض .
وبالعودة للحديث عن فوز ترامب ونسفه جميع التوقعات والتحليلات المؤكدة بفوز هيلاري كلينتون فأني أرجح قيام عرابي السياسة الأمريكية بفرض ترامب على الشعب الأمريكي وأسقاط الديمقراطية التي يتبجحون بها من خلال رفض نتائج فرز الأصوات والأنصياع لقرار المجلس الأنتخابي الذي رجح كفة ترامب للفوز بالرئاسة وذلك لسبب بسيط !! ففي حال فوز كلينتون بالرئاسة سيتم أنعاش حلم شريحة أمريكية واسعة ومعظم الحلفاء المطالبون بأيقاف الكرملين ووضع حد للماكينة العسكرية الروسية الشرسة فهذا الأمر (فوز كلينتون ) سيعد بمثابة أنتحار للسياسة الأمريكية فهم مطالبون حينها بالوقوف بوجه أطماع الكرملين مما قد يؤدي إلى نشوب حرب عالمية ثالثة حيث لاتسمح الظروف الداخلبة والخارجية للولايات المتحدة بالخوض فيها ، مما دفع الساسة الأمريكيون إلى تنصيب ترامب رئيسا ضاربين عرض الحائط نتائج صناديق الأنتخابات لأعطاء مزيدا من الوقت للجانب الأمريكي لدراسة الموقف بحذر ، ولجعل الجانب الروسي يستنزف في المستنقع السوري إلى أبعد الحدود على أمل تصدع الماكينة العسكرية الروسية تلقائيا من خلال وضع العقبات أمام حل سلمي يريح كاهل الكرملين وينهي حالة الصراع في الأراضي السورية ، أي وبعبارة أخرى فأن الجانب الأمريكي يستخدم عامل الوقت والأجهاد للقضاء على اللاعب الروسي دون أن يكلف الخزينة الأمريكية سنتا واحدا والأكتفاء بتوجيه الضربات تحت الحزام فقط ، وأن فوز ترامب بالرئاسة ، والنكسات المتتابعة التي تزهق حياة الدبلوماسين الروس ، ومحاولات ضرب العلاقات الإيرانية الروسية من خلال تقاطع المصالح ، والقيام بعمليات أرهاربية في الأراضي التركية تجعل الجانب التركي يفكر مليا بقطع العلاقات مع الكرملين والعودة إلى الحظيرة الأمريكية ، فأن جميع تلك المعطيات تصب في ذات الأتجاه وتجعلنا نشعر بمقدار دهاء السياسة الأمريكية وبأن ليس كل مايقال هو الواقع .
أما وبالنسبة للوضع الأقتصادي الأمريكي فأن المستغرب بالأمر بأن بعض المحلليين السياسيين العرب لايلقون للجانب الأقتصادي الأمريكي المريض أية عواقب على السياسة الخارجية الأمريكية بأعتبارها قوة عظمى وهم مخطئون جدا ، فالدين الصيني البالغ 1.3 ترليون دولار سوف يفرض لغة حوار معينة مع ترامب وسيجبره ذلك الرقم على الأبقاء على سياسة الصين الواحدة ، وإنما تلويح ترامب بالتخلي عن سياسة الصين الواحدة فهي عبارة عن حركة لجلب الأنظار ليس إلا .
عزيزي المواطن العربي المتشائم من فوز ترامب بالرئاسة ، يؤسفني أخبارك بأن الأمر لايعنيك لا من قريب ولا من بعيد !! مادمنا مجرد بيادق في رقعة الشطرنج الكبرى لاحول لنا ولاقوة في تقرير مصيرنا وتحديد مسار حركتنا .
ــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة