قراءة نقدية في الادبيات السلفية – بقلم: أسعد عبد الرزاق
التطرف ليس حالة طارئة على الساحة المعاصرة بل له جذوره الدينية في عموم القراءة السائدة للتراث الديني, وما كان له أن يبين إلا للصدام الذي حصل مع مفاهيم الحضارة المعاصرة التي تختلف جوهريا عما عليه اليوم الفكر الديني المتطرف.
ونتيجة لتبدل المفاهيم فإن فكر التطرف ذو معايير مختلفة عن الفكر الحديث, فما يراه المتطرف السلفي بالنسبة للعدل يختلف عما يراه الفكر الحديث عن العدل في الوقت الحاضر.
ومن جهة أخرى ثمة تناقض موجود في الأدبيات الفقهية لدى الموروث الفقهي الإسلامي في صور متعدد كانت أهمها مسألة الولاء والبراءة والجهاد, والتي ربما يسكت عنها الفقهاء من المذاهب الاخرى اليوم ولا يصيح بها سوى المتطرفين الذين وجدوها مدونة في المتون الفقهية لا أكثر.
ثمة سمات للفكر السلفي منها سمة اللقب أو الوصف الذي يتداول في التراث السلفي من قبيل : (السلف الصالح, أهل الحديث, أهل الحق, الفرقة الناجية, ويؤكد أن خلاصة هذه الأوصاف وأشباهها هو ادعاء امتلاك الحقيقة, من قبيل ما هو واضح لدى ابن تيمية في لتكريس هذه الفكرة (امتلاك الحقيقة) بواسطة تلك الألقاب والصفات.
ويمكن المقاربة بين تلك الألقاب وبين فكرة العصمة التي تكونت في الذهنية السلفية, من خلال قول الألباني: (الذي ينتسب الى السلف الصالح فإنه ينتسب إلى العصمة على وجه العموم) , كما أكد ذلك ابن تيمية عندما اعتبر أن إتباع المنهج السلفي عاصم للمتبع من الوقوع في البدع والضلالة, وقريب منه قول الالباني بأن الخط السلفي هم الفرقة الناجية.
من هذا يتضح أن الذهنية السلفية تحكمها نزعة امتلاك الحقيقية أو الحقانية على نحو يلغي أية حلقات خارج إطار الحلقة التي تلبس عنوان السلف الصالح.., فما هو خارج عن السلف يكون تحت وطأة الإلغاء والنفي.
فالسلفية المعاصرة تقسم الناس إلى سلفي ومبتدع, وهذا التقسيم اقتضاه الواقع كما تؤكد ذلك أحد المصادر السلفية المعاصرة.
ان احتكار النجاة للسلف سوف يؤثر حتى على المناهج الفقهية المختلفة مع المنهج السلفي كما في قدح الألباني بشيخ الأزهر.
ينتفي الفرق بين الأصل والفرع في الفكر السلفي كما في إجابة الألباني على اعتراض وجه إليه حول الاهتمام بالأمور الفرعية مثل اسبال اليدين عند بعض المذاهب فأجاب الألباني: (نحن نعتقد أن كل ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب أن نتبناه دينا أولا, مع وزنه بالأدلة الشرعية إن كان فرضا ففرض وإن كان سنة فسنة, أما أن نسميه أمرا تافها أو قشورا لأنه مستحب فهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء إطلاقا لا سيما وأن اللب لا يمكن المحافظة عليه إلا بالمحافظة على القشر).
من هذا يتضح التجاوز السلفي لتراتب الأولويات بالنسبة للأحكام من دون وجود ظابط معياري قيمي انطلاقا من منهج الالتزام الحرفي بالنصوص.
الملاحظ أن الفكر السلفي يعاني من ذهنية سلفية تتعاطى مع القضايا والحقائق الدينية بمستوى واحد من الحقانية وبنمطية واحدة فكل ما صدر عن النبي دين وكل بل كل ما يستفيده السلفي من النص دين ولا يمكن نقاشه لأن السلفي طالما تمسك بالسلف فهو معصوم عن الوقوع في غير ما هو سلف ودين!
ثم المفارقة بين فكرة الفرقة الناجية وفكرة الجماعة التي تجتمعان في الذهنية السلفية, مع أن فكرة الفرقة الناجية توحي بقلة عدد الفرقة, وفكرة الجماعة توحي بالكثرة العددية, ويمكن حل هذه المفارقة بأن فكرة الجماعة عند السلفيين لا تعني الكثرة العددية, لكنها تفيد من هو على عقيدة السلف حصرا, مستشهدا بقول ابن مسعود : (إن الجماعة من كان على حق وإن كنت وحدك), ويقول محمد بن عبد الوهاب: (وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل, إلا نفرا يسيرا فكانوا هم الجماعة وكان القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون, وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة), إن تقليل الجمع عند هؤلاء يقلل الفارق بين فكرة الجماعة وفكرة الفرقة الناجية.
ويظهر لي اعتمادا على احد المصادر أن السلفية على اقسام ثلاث:
السلفية الزمانية تطلق على فترة القرون الثلاثة, والتي تضم الصحابة والتابعين وتابعي التابعين, ثم من تبعهم من الأئمة الأربعة, وسائر أصحاب السنن, ويقصد بالبدعة الخوارج والرافضة والناصبة والقدرية والمرجئة والاشعرية والمعتزلة والجهمية ونحوهم.
السلفية المنهجية, هي اتباع منهج السلف, ولكن هذه السلفية المتبعة قد تنتج فقها جديدا اذا تغيرت الظروف, سوى أن منهجها منسجم مع منهج السلف.
سلفية المضمون والمحتوى, فهي اتباع المنهج السلفي الأصولي من فكر في الاعتقاد والفقه, والقول بما قال به السلف الزماني وتبني قضاياهم وحل المشكلات بنفس حلولهم, أي عملية اجترار للمحتوى القديم واسقاطه على الواقع المعاصر.
لمرتكزات الفكر أو المنهج السلفي في عدة نقاط:
1- تقديم الشرع على العقل.
2- عدم تأويل النقل.
3- حصرهم لمصدر التلقي في باب الاعتقاد على القرآن والسنة.
4- عدم التفريق في احاديث الرسول الواردة بين التواتر والاحاد.
5- فهمهم للنصوص مبني على فهم السلف لها.
6- ذم التقليد في الدين.
إن المنهج السلفي يعتبر العقل شاهدا على النص لا حاكما عليه, بدليل أن العقل مصدق لكل ما أخبر به النص, وأن النص لم يصدق بكل ما أخبر به العقل.
والملاحظ من طبيعة الأدلة التي يستند اليها المنهج السلفي في استدلاله على تقديم النقل أن الذهن السلفي يتعامل مع النصوص التشريعية تحت معيار الايمان والكفر, فلا بد من الفقيه أن يؤمن بالنص ويسلم معه لا أن يتعامل معه وفق معيار الصواب والخطأ أو وفق معيار معرفي, لأن هذا الأخير يمثل عقلا حاكما على النص والمفترض أن النص هو الحاكم فلا بد من التعامل مع وفق معيار إيماني لا برهاني أو معرفي.
– أما النقطة الثانية (عدم تأويل النقل) فإن السلفيين يعملون بظاهر الالفاظ دون تكلف بالتأويل, وورود مصطلح التأويل عندهم ذو معنى يختلف عن معنى التأويل عند بقية المدارس, فهو إما أن يعني التفسير, وإما أن يعنى المراد الحقيقي من الكلام, كما يذهب إلى ذلك ابن تيمية, كما في جوابه عن سؤال (هل يخلو عرش الله حين نزوله) فقال: (أصل هذا السؤال تنطع, وإيراده غير مشكور عليه موردُه, لأننا نسأل هل أنت أحرص من الصحابة على فهم صفات الله؟ إن قال نعم, فقد كذب, وإن قال لا, قلنا: فليسعك ما يسعهم فهم ما سألوا الرسول(ص) وقالوا يا رسول الله اذا نزل هل يخلو منه العرش.. ومالك وهذا السؤال قل ينزل واسكت, يخلو منه العرش أو لا يخلو هذا ليس اليك أنت مأمور بأن تصدق الخبر).
هنا يظهر المعيار الايماني في التعاطي مع النصوص الدينية, فهو لا يتعامل مع النص بأسلوب الفاهم أو المستفهم, وإنما يقرأه بأسلوب المؤمن الواقف على حدود دلالته الظاهرة.
إن هذه الاشكاليات تفرع عنها موقفان للاتجاه السلفي, الأول موقفهم السلبي من المنطق, والثاني موقفهم السلبي من أهل البدع والزيغ, ففيما يخص الأول أصر ابن تيمية على تضعضع الاستدلال بالمنطق, وأن المستند إليه فاسد.
إن أثر مغادرة المنطق على الفكر العقائدي وما يؤديه من انحطاط فكري فضلا عن الجانب الفقهي وما يؤدي إليه من فوضى في الفتاوى, واضح جدا, ومن الأمثلة قول الرسول(ص): (لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه), وكيف أفتى فقهاء السلفية بحرمة استخدام الوقود الكحولي للسيارات لأنه نوع من أنواع الحمل الوارد في الحديث!
أما الموقف الثاني, فإن أبي اسماعيل الصابوني عندما يلخص هذا الموقف بقوله: (لا يحبونهم ولا يصحبونهم ولا يسمعون كلامهم ولا يجالسونهم ولا يجادلونهم في الدين ولا يناظرونهم, ويرون صون آذانهم عن أباطيلهم التي إذا مرت بالآذان وقرت بالقلوب ضرت, وجرت عليها من الوسواس والخطات الفاسدة ما جرت)
وواضح أن هذا الاعتزال الفكري يجر إلى الانغلاق إيمانا منهم بوجوب التسليم بكل ما جاءت به المرويات.
وفي النقطة الثالثة: (تلقي أحكام الدين من القرآن والسنة حصرا), إذا وجد السلفيون تعارضا في النصوص لا يضربون النص بعضه بعضا وإنما يؤمنون به كلا.
إن هذا الحصر يختلف عن بقية المدارس في كيفية تعاطيها مع هذين الاصلين, فمن جهة القران يبتعد المنهج السلفي عن التأويل المدعم بالبرهان, ومن ناحية السنة لا يتوقف المنهج السلفي أما الكم الهائل من المرويات التي تروى حتى عن بعض الصحابة.
وفي النقطة الرابعة(عدم الفرق بين المتواتر والاحاد):
يظهر أن السلفيين يذهبون إلى أن الاحاد يفيد يقينا أيضا, وأن التفريق بدعة مستدلا بما يقوله الالباني: (إن هذا التفريق من أبرز الأدلة على خروجهم عن اتباع السلف الصالح, لأنهم لا يعرفون شيئا اسمه حديث متواتر أو حديث آحاد)
على حين نجد أن الصحابة كانوا يفصلون بين الاثنين ولو لم يكن اصطلاح لهما, إلا أن عمر كان يرد بعض الأحاديث.
في النقطة الخامسة, المتضمنة أن فهم الوحي يقتصر على فهم السلف له ولا يجوز تجاوز أفهامهم, بذريعة أن الخلف لا يعقل أن يكونوا أعلم من السلف, إلا أنها تتعارض مع مخالفة عبد الله بن عمر سنة أحد الخلفاء الراشدين المهديين وقد نص الرسول (ص) على اتباعهم, وذلك عندما خالف ابن عمر علي ابن ابي طالب(ع).
إن الجمع بين هذه النقاط التي كانت أسسا يعتمدها المنهج السلفي, يؤدي إلى تناقضات كثير داخل هذا الفكر, فإشكالية هذا الفكر أنه يحمل بذور تطرفه في داخله وفي أدبياته وفي فكره ورجاله ومناهجه ومصادره وفي لب منهجه الذي يقدم حرفية النص على العقل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة