الشرق والفلسفة: هل تشكّل الآداب الشرقية جزءاً من الفلسفة ؟ ميرلو بونتي / ترجمة: ميسون كمال
هل تشكّل الآداب الشرقية التي قد تحتاج لمجلدات لاستيعابها جزءاً من الفلسفة؟ وهل يمكن مقارنتها مع ما يطلق عليه الغرب اليوم هذه التسمية ؟ بدايةً، لا يمكن أن نفهم الحقيقة كأفق لسلسلة غير معرّفة من البحوث،ولا كغزو وامتلاك فكري للكينونة. هي بالأحرى كنز مشعّث في الحياة الإنسانية،غير مجزّأ بين العقائد وسابق لكل فلسفة.لا يشعر الفكر بأنه ملزم بأن يدفع بعيداً بالمحاولات القديمة،ولا حتى بالاختيار ما بينها، ولا بتجاوزها مشكلاً منها فكرة جديدة شاملة،بل يقدم نفسه كتعليق وتوفيق،صدىً ومصالحة.وفي حين أن القديم والجديد، والعقائد المتعارضة تقيم سدوداً فيما بينها، “لا يرى القارئ الجَسور هنا ما هو مكتسب وما عفا عليه الزمن، بل يشعر بنفسه في عالم سحري لا نهاية له،حيث تصمد الأفكار الميتة،وحيث تتلاقى وتمتزج أكثر الأفكار تصادماً أو ما نظنه كذلك للوهلة الأولى.
يجدر بنا بالطبع أن نعترف بجهلنا على هذا الصعيد: فإذا كنا نرى في الفكر الغربي تفوقاً لا تجاريه الهند والصين،وأنه يعطينا انطباعاً باسترجاع وبإعادة تأويل غير محدودة،بخيانة دائمة،بتغيير لاإرادي لا يمكن القبض عليه،فهذا الشعور نفسه،بما يخص الشرق موجود بقوة عند العارفين. يقول ماسون-اورسل عن الهند:«نتحدث هنا عن عالم فسيح متشعب وغير موحّد،حيث لا يظهر أي جديد بمعنى كلّي،ولا ينتهي شيء مما اعتقدناه متَجاوزاً. سديم من مجموعات انسانية،أدغال شائكة من أديان متنافرة،ووفرة عقائد.» وقد كتب مفكر صيني:« نجد في بعض الكتابات الفلسفية لمنسيوس او لشوانغ تسو على سبيل المثال،منطقاً وبراهين متسقة،لكنها لا ترقى لمستوى صياغة الكتابات الفلسفية الغربية. وذلك لأن فلاسفة الصين اعتادوا على التعبير عن أفكارهم بطريقة الأمثال والأقوال المأثورة والإشارات…إن أقوال وكتابات الفلاسفة الصينيين هي غير متسقة لدرجة تحمل ما لا يمكن أن يحدّ من الإيحاء…فالعبارات القصيرة لسجل المراسم لكونفوشيوس و لفلسفة لاوتسو ليست مجرد نتائج دون مقدمات،إذ أننا قادرون على جمع كل الافكار الواردة عند لاوتسو واعادة كتابتها في مؤلف من خمسة آلاف أو حتى من خمسمئة ألف كلمة،وهذا سيقدم بالتأكيد كتاباً جديداً يساعد على فهم أفكار الفيلسوف حين نقارنها بالكتاب الأصلي،لكنه لن يقوم مقامه البتّة. إن كو-سيانغ يعتبر من أهم الشارحين لتشوانغ تسو،بل إن تفاسيره تشكل بحد ذاتها كتاباً كلاسيكياً ينتمي للأدب التاوي،فهو قد أعاد نسخ المجاز والإشارات عند تشوانغ تسو بطريقة منطقية وبرهانية…لكن ان قارنّا بين الأسلوب الإيحائي للفيلسوف والأسلوب البرهاني المتسق للشارح يحق لنا أن نتساءل عمن هو الأفضل. وفي هذا السياق يقول أحد رهبان المدرسة البوذية اللاحقة “زن” :« يقول الجميع بأن كو سيانغ كتب تعليقاً حول تشوانغ سو، وأنا أرى بأن الثاني قد قدّم تفسيراً للأوّل.»
لقد بقيت بالتأكيد المواضيع المسيحية في الفلسفة الغربية خلال القرون العشرين الفائتة،وقد يلزمناالنظر من داخل الحضارة كي نبصر حركة التاريخ خلف مظاهر الركود. لكن رغم ذلك تصعب كثيراً مقارنة المدة الزمنية للمسيحية في الغرب وللكونفوشية في الصين. فالمسيحية الباقية بيننا ليست فلسفة وإنما سرد وتأمل في تجربة،في مجموعة أحداث ملغزة تستدعي عملاً تأويلياً وتطويرياً،وتحث دائماً على إبداع فلسفات جديدة. المواضيع المسيحية خميرة لا أثر باقٍ.لا شيء هنا يستدعي المقارنة مع وفرة المصطلحات في التقليد الكونفوشي،مع التوليفة الكبيرة للمواضيع الطاوية الجديدة التي تعود للقرن الثالث والرابع بعد الميلاد،مع المحاولات المذهلة والمجنونة في الإحصاء الكلي وفي المصالحة التي كرست نفسها لها أجيال من أدباء الصين،ومع الاورثوذوكسية الفلسفية التي ستستمر منذ تشو-هي(١١٣٠-١٢٠٠) حتى عام ١٩٠٥ تقديراً. وإن دخلنا في مضمون العقائد – كما يتوجب علينا حيث ان الاشكال الخارجية للفلسفة الصينية تهتم بعلاقة الإنسان مع العالم- لا نجد أية عقيدة أخرى درست وعلّمت التناغم العميق بين العالمين الأصغر والأكبر،وحددت مكاناً واسماً لكل شيء ولكل كائن،وجعلت “التصحيح” من كبريات الفضائل.
لدينا شعور بأن وقع كلمة “يعرف” او “يفهم” عند فلاسفة الصين مختلف عنه لدى الغربيين،فهم لا يفترضون المعنى هنا كتكوين فكري للموضوع،ولا يسعون للقبض عليه بل لاستحضاره في كماله الأوّلي فحسب. لذلك هم يستخدمون الإيحاء،ولذلك لا نقدر أن نميز عندهم بين التفسير والمفسَّر،بين المغلَّف والمغلِّف،وبين الدال والمدلول. ولهذا السبب يشير المفهوم والقول المأثور عندهم كلاهما الى الآخر.
كيف نقدر في هذه الحالة وفي تلك الأزمنة المبعثرة على اكتشاف صورة أو سيرورة أو تاريخ؟ كيف نحدد اسهامات كل فيلسوف على حدة عندما يكونون جميعاً في حالة دوار منجذب إلى عالم واحد سحيق لا يتوقون للتفكير به بل لجعله حاضراً؟ إن علاقة الفيلسوف الصيني بالعالم قائمة على الدهشة،وهذا لا يتم الوصول اليه من منتصف الطريق فإما أن نتعلمه بواسطة التاريخ والتقاليد والحضارة- مع ما يمثل ذلك من بنية فوقية غير قادرة على ايفاء هذه المعجزة التاريخية حقها،وإما أن نكف عن محاولة الفهم.
مثل جميع المنجزات والمؤسسات الإنسانية تملك الهند والصين رصيداً عظيماً ينتظر منا تمييز معناه الصحيح ولا يقدمه لنا جاهزاً. هما لا تقبضان كلياً على ما تقولانه،وما ينقصهما لإنتاج فلسفات هو التوق لامتلاك الذات وكل الباقي…
هذه الملاحظات العادية جداً في أيامنا لا تحسم المسألة. لقد أتتنا من هيجل الذي اخترع فكرة تجاوز الشرق من خلال” فهمه”. وهو الذي وضع كمقابل للشرق فكرة الحقيقة الغربية وفكرة المفهوم كاستعادة كلية للعالم في تنوعه.وهو من عرّف الشرق كفشل في المحاولة ذاتها. ويجدر بنا تذكر العبارات الاتهامية قبل أن نقرر ما اذا كنا نأخذها على عاتقنا.
بالنسبة لهيغل يشكل فكر الشرق فلسفة بمعنى أن الروح تتعلم فيها الانعتاق من الظواهر والغرور. هي كالأهرامات،ليست سوى فلسفة في ذاتها،أي أن الفيلسوف يقرأ فيها إيذاناً بالروح التي لا تكون هنا في حالة الوعي المحض. فالروح ليست روحاً طالما هي منفصلة ومتوضعة فوق المظاهر: إن نظير هذا الفكر المجرد هو توسع الظواهر غير المسيطر عليها.لدينا إذاً من جهة،حدس “لا يرى شيئاً”،فكر “لا يفكر بشيء”،الواحد غير المتجسد،الجوهر الأزلي الهادئ الفسيح،تأمل لا شبيه له،الاسم الصوفي للإله،مقطع “أوم” المتمتم لانهائياً،وهذا يعني اللاوعي والفراغ. ولدينا من ناحية أخرى، كتلة من التفاصيل العبثية،الاحتفالات الغريبة،المخزون الأبدي،التعداد اللامحدود، تقنية تحتال بالجسد،بالتنفس وبالحواس التي ننتظر منها أي شيء،تأليه أفكار الآخرين،قوة الفيل شجاعة الأسد وسرعة الريح. عند الدراويش والساخرين في اليونان وعند الرهبان والمتسولين في المسيحية نجد “تجريداً عميقاً للظواهر الخارجية”،محفزاً ورائياً ورائعاً،لكننا لا نجد بتاتاً وساطة أو عبوراً من الداخل للخارج ثم عودة منه الى الذات. تجهل الهند ” اشعاع المفهوم في المحدد” ولهذا ينتهي هذا الاستشعار في” الصبيانية”.
أما الصين، فلديها تاريخ ؛ هي تميز البربرية من الثقافة وتنمو بشكل مطرد من الاولى للثانية، لكنها “ثقافة تتوقف في داخل المبدأ” ولا تتطور الى أبعد من ذلك. على مستوى آخر مختلف عن الحالة الهندية،تثبت الصين المواجهة المباشرة والساحقة بين الداخل والخارج،ونراها بحكمتها الركيكة تسعى لكشف سر العالم في قشرة السلحفاة،ولممارسة حق شكلاني خالٍ من النقد الأخلاقي.”لن يأتي ببال الأوروبي أبداً أن يضع الأشياء المحسوسة بقرب شديد من التجريد”. تنزلق الفكرة بلا فائدة من المجرد للملموس وخلال هذا الوقت لا تكون، لاتنضج.
لا نستطيع القول، يضيف هيغل، بأن الفكر الشرقي دين؛ هو أيضاً وللأسباب عينها، غريب عن الدين غربته عن الفلسفة. فدين الغرب يفترض “مبدأ الحرية والفردية”، وكان قد مر بتجربة “الذاتية المفكرة”، من الروح الى العمل في العالم.وقد تعلم الغرب بأن امتلاك الذات والخروج منها، تفعيلها وإنكارها هو الشيء نفسه بالنسبة للروح. اما الفكر الشرقي فلا يتطرق اليه الشك بهذا النفي الذي يثبت؛ فهذا خارج مدار تناول تصنيفاتنا؛ فهو ليس إيماناً ولا إلحاداً ولا ديناً ولا فلسفة.ليس براهما فيشنو وشيفا أفراداً كما أنهم ليسوا رموزاً لمواقف إنسانية جذرية، وما تسرده عنهم الهند لا يمتلك المعنى فائق الثراء للأساطير الاغريقية او لاستعارات الأمثال المسيحية. هم بالكاد يكونون كيانات او وحدات فلسفية. ورغم ان الصينيين يفخرون بكون حضارتهم الاقل تديناً والاكثر فلسفة، الا انها بالحقيقة ليست ايضاً فلسفية،فما ينقصها هو معرفة عمل الروح في التماس المباشر مع العالم . الفكر الشرقي إذاً أصلي بمعنى انه لا يسلم نفسه لنا الا حين ننسى الاشكال النهائية لثقافتنا.لكننا نفهمه من خلال ماضينا الفردي او الجماعي؛ هو يكمن في المنطقة المحايدة حيث لم يتشكل بعد دين ولا فلسفة. هو مأزق الروح المباشرة الذي عرفنا كيفية اجتنابه. وهكذا يتجاوز هيغل فكر الشرق بدمجه كحالة شاذة أو لانمطية مع سيرورة الروح الحقة.
هذه الرؤى الهيجلية نجدها في كل مكان. حين نعرّف الغرب باختراع العلم او بالرأسمالية،فنحن نستوحي منه ذلك.وذلك لأن العلم والراسمالية لا يقدران على تعريف حضارة الا بفهمها “كعمل للنفي”، والنقد الموجه للشرق يتعلق دائما بجهله لذلك.
المشكلة اذاً واضحة جداً:لا يقر هيغل واتباعه بأية جدارة فلسفية للشرق الا باعتباره تقرباً بعيداً من المفهوم.
في الحقيقة،ان فكرتنا عن المعرفة متطلبة للغاية كونها تضع كل شكل آخر من الفكر في مرتبة الانصياع باعتباره مخطوط أولي من المفهوم،او في مرتبة تجرده من العقلانية.لكن هذه المعرفة المطلقة،هذا الملموس الكوني الذي اغلق دونه الشرق بابه،يجدر بنا ان نتساءل ما إذا كنا نجرؤ على ادعاء امتلاكها كما فعل هيغل. وان كنا لا نملكها فعلياً فعلينا ان نعيد النظر بكل تقييمنا السابق للحضارات الأخرى.
حتى هسرل في نهاية مهنته حين عرض لأزمة العلم الغربي، كتب بأن “الصين والهند هي خمائر تجريبية أو انتروبولوجية. يبدو هنا إذاً سائراً على خطى هيغل. لكنه وإن احتفظ بالأفضلية للفلسفة الغربية،فذلك ليس لحق تمتلكه وكأنها تحتوي في بديهة مطلقة مبادئ كل ثقافة ممكنة،بل لأمر يتعين عليها فعله ولتفويضها بمهمة كبيرة.
سلّم هسرل بأن الثقافات المسماة بدائية تلعب دوراً مهماً في اكتشاف “العالم المعيش”،من خلال منحها لتنوعات نبقى من دونها ملتصقين بأحكامنا المسبقة ولا نرى حتى معنى لحياتنا الخاصة. لكن يبقى أن الغرب قد اخترع فكرةً للحقيقة تجبره على فهم الثقافات الأخرى وعلى استعادتها باعتبارها لحظات من الحقيقة الكلية. ان هذا في الواقع عودة إعجازية الى الذات من تشكل تاريخي،ينبثق فيها الفكر الغربي من خصوصيته ومحليته كتخمين او تقدير يتوق للاكتمال. وان كان الفكر الغربي كما يدّعي،يتوجب عليه اثبات ذلك بفهم كل “العوالم المعيشة” التي يشهدها من خلال معناها الوحيد وراء “الخمائر الانتروبولوجية”. وتظهر هنا من جديد فكرة “العلم المتشدد” او ما يشبه “المعرفة المطلقة” لكنها منذ الآن فصاعداً مترافقة مع علامة استفهامية. في أواخر سنواته قال هسرل:” ان كانت الفلسفة شبيهة بالعلم المتشدد فقد انتهى الحلم”. فالفيلسوف لا يستطيع استخدام فكرة راديكالية،ولا الادعاء بالامتلاك الفكري للعالم ولصرامة المفهوم. وان كانت مهمته تقضي برصد الأمور فهو لا ينتهي منها أبداً لأن عليه ملاحقتها من خلال حقل الظواهر التي لا يمكن لأي “قبلية” ان تحقق له امتلاكها مسبقاً. لقد فهم هسرل بأن المشكلة الفلسفية تقضي بتوسيع المفهوم من دون تدميره.
هناك أمر لا بديل عنه في الفكر الغربي،وهو الجهد الهادف للتصميم،صرامة المفهوم النموذجية حتى وان لم تستغرق الموجودات. فإن الحكم على ثقافة ما يكون من خلال درجة شفافيتها ووعيها بذاتها وبالآخرين. وعلى هذا الصعيد، يبقى الغرب نظاماً مرجعياً كونه من ابتكر الوسائل النظرية والعملية لاستيعاب يفتح درباً للحقيقة.
غير أن هذا الامتلاك للذات وللحقيقة الذي يشكل موضوعاً يتفرد به الغرب دون استنفاده،يمرّ أيضاً بأحلام الثقافات الأخرى. وكل ما تعلمناه عن العلاقات التاريخية بين اليونان والشرق،وكل ما اكتشفناه بالمقابل من “غربي” في فكر الشرق يمنعنا من رسم حدود جغرافية فاصلة بين الفلسفة واللافلسفة. وفي الحقيقة فإن” الفلسفة المحض أو المطلقة” لا يقصي هيغل منها الشرق فحسب بل أيضاً جزءاً كبيراً من الماضي الغربي،وان شئنا التدقيق في هذا المقياس لما بقي سوى فلسفة هيغل نفسه.
ولأنه يتوجب على الغرب على حد تعبير هسرل،أن يبرهن على قيمته “كإنجاز تاريخي” من خلال إبداعات جديدة،ولأنه هو نفسه إبداع تاريخي يعد بإنجاز مهمة فهم الآخر العسيرة،فإن قدره أن يعيد النظر حتى في فكرته عن الحقيقة وعن المفهوم وفي كل مؤسساته- علوم، رأسمالية وان شئنا حتى العقدة الاوديبية- المتعلقة بشكل مباشر او غير مباشر بفلسفته.وذلك ليس بالضرورة لتدميرها بل لمواجهة الأزمة التي تمر بها،ولإعادة إيجاد المصدر الذي نبعت منه والذي تدين له بنجاحها الطويل. من هذه الزاوية،تعود لقيمتها المثرية حضارات لا تمتلك معدّاتنا الفلسفية او الاقتصادية. لا يتعلق الأمر بالذهاب للبحث عن الحقيقة او الخلاص في ما يقلّ عن العلم والوعي الفلسفي،ولا بنقل الأجزاء الأسطورية كما هي الى داخل فلسفتنا،بل (وبحضور هذه التنويعات الانسانية التي ما نزال بعيدين عنها وعن التعامل مع مشكلاتها النظرية والعملية التي تواجه مؤسساتنا) بإعادة اكتشاف الحقل الوجودي الذي ولدت فيه والذي أنسانا اياها نجاحها المديد.ان “صبيانية” الشرق تملك ما تعلمنا اياه،ربما بالتحديد ضيق افق افكارنا الراشدة. وما بين الشرق والغرب،كما بين الطفل والراشد، لا تختصر العلاقة بالجهل الى المعرفة او باللافلسفة الى الفلسفة،بل هي اكثر دقة بكثير من ذلك وهي تسلّم من جهة الشرق بكل الإرهاصات و كل النضج المبكر. ان وحدة الروح الانسانية لا تكون بربط بسيط او بإلحاق ال”لافلسفة” بالفلسفة الصحيحة،با هي موجودة اصلاً في العلائق الجانبية لكل ثقافة مع الأخرى،وفي الأصداء التي تولدها احداها في الأخرى.
يجدر بنا ان نطبق على مشكلة كونية الفلسفة ما يسرده لنا الرحالة عن علاقاتهم مع الحضارات الغريبة،وإن أبدت لنا الصور الفوتوغرافية الصينية المتوقفة عند المظاهر الطبيعية الجمالية- اي بالضبط عند فهمنا المجتزأ للصين- عالماً لا يمكن اختراقه،بالمقابل فإن صورة تحاول ببساطة التقاط الحياة المشتركة عند الصينيين تجعلهم يبسطون لنا حياتهم وتدفعنا لفهمهم. وإننا لنجد في العقائد -حتى في أكثرها تمرداً على المفهوم- وذلك إن فهمناها في سياقها التاريخي،تنوعاً مثرياً في الروابط بين الإنسان والكينونة تنير لنا درب ذاتنا.ففلسفات الهند والصين لم تسع يوماً للسيطرة على الوجود بل لأن تكون صدى لعلاقتنا بالكينونة.وتستطيع الفلسفة الغربية أن تتعلم منها كيفية إعادة إيجاد هذه العلاقة، ووكيفية قياس وربما إطلاق الإمكانيات التي انغلقنا عنها حين صرنا “غربيين”.
لهذا السبب، يجدر بنا وضع الشرق في متحف الفلاسفة الخالدين، ولأننا غير قادرين على إيفائه مكانته التي تتطلبها دراسة تفصيلية ، فقد فضلنا ان نضع بين ايدي الأجيال عيّنات دقيقة بعض الشيء، ربما يستطيع القارئ ان يميز من خلالها إسهام الشرق الكبير السري والمسكوت عنه في الفلسفة.