عالمية الإسلام بين النظرية وسوء التطبيق
عالمية الإسلام بين النظرية وسوء التطبيق
من المعلوم أن الإسلام دين عالمي ،ومعنى هذه العالمية بغير اختصارٍ مخلٍ أو تطويلٍ مملٍ : أنّ رسالة الإسلام وشريعته قد جاءت للعالمين إنساً وجناً، على اختلاف ألوانهم، وأعراقهم، وأجناسهم.
وتلك العالمية تجد لها سندًا في المنقول والمعقول على حدٍ سواء ،فمن المنقول ، قوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } الأنبياء الآية 107، وقول النبي صلى الله عليه وسلم وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً ” رواه البخاري
وتلك العالمية تجد لها أيضًا سندًا آخر في أحكام العقل؛ إذ إنَّ كون الإسلام دينًا خاتمًا يستلزم ضرورةً أن يكون موجهًا للعالمين؛ لحاجة كل البشر لهداية الوحي ، ويستلزم ذلك كونه صالحًا لكل البشر مهما اختلفت أجناسهم وألوانهم وأزمانهم وأوطانهم ،إذ إننا لو لم نسلم بتلك النتيجة لاقتضت أحكام العقل ضرورة بعث رسلٍ آخرين لهداية الناس لرب العالمين؛ لأنهم في حاجة إلى ذلك على الدوام وهذا باطل؛ لقوله تعالى{ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} سورة الأحزاب الآية 40.
ورغم أننا نسلم بكل يقين بهذا المبدأ إلا إننا لا نسلم بالفهم المغلوط الذي واكب هذا المبدأ في بعض عصور الإسلام المتقدمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذلك الفهم المغلوط الذي أعطى مبررًا لبعض حكام المسلمين في بعض العصور لشن الحروب على الأمم المجاورة بغير حق؛ استنادًا لدعوى تحقيق عالمية دين الإسلام التي يقتضي تحقيقها ـ طبقا لهذا الفهم ـ إحكام السيطرة على الأراضي المجاورة وتملك زمام السلطة فيها .
والدليل على تفشي هذا الفهم المغلوط هو شن بعض الحروب غير المبررة من بعض الدول الإسلامية على غيرها ،وكتب التاريخ الإسلامي تعج بمثل تلك الحروب التي كان ظاهرها تأكيد عالمية الإسلام وباطنها تأكيد سيطرة وسطوة بعض الولاة ورموز الحكم في حينها.
والمزعج في الأمر ،أن تلك الأفكار مازالت راسخة لدى بعض شباب المسلمين في عصرنا الحالي، بل ويربطون عز الإسلام وتحقيق هذه العزة بالفتوحات ويرون ضرورة إحكام السيطرة المادية على العالم.
وفي نظري المتواضع أن مكمن الخطأ والفهم المغلوط لهذا المبدأ يتلخص في ربطه بمفهوم الجهاد من جهة وربط مفهوم الجهاد باكتساب رقعة جغرافية جديدة تسيطر أحكام الدول الإسلامية عليها من جهة أخرى .
إلا إن المدقق في مفهوم هذا المبدأ حقيقةً يجد أن العالمية ترتبط بالخطاب والقيم والمبادي الإنسانية العليا ولا علاقة لها بالأرض وضرورة حيازتها والحدود الجغرافية وإحكام السيطرة عليها ؛ وآية ذلك أن العالمية ترتبط بخلود تلك الشريعة، والخلود مرتبط بالمبادئ ، والمبادئ لا تعرف بطبيعتها حدودا جغرافية ،وهي أساسًا لا تتوقف على حيازة الأرض والسيطرة عليها، فإذا أضفنا إلى ذلك أن مبدأ المناسبة لكل زمان ومكان يقتضى الالتفات عن حدود الزمان والمكان ضرورةً ؛ لأن الجغرافيا في نظر الإسلام متغيرة لا يعول عليها ،لأن ما يصبح دار إسلام اليوم قد يصبح دار لغير الإسلام غدا ،وما كان دار غير المسلمين أمس قد يصبح دار إسلام اليوم ، وكل ذلك يتنافى مع طبيعة المبادئ الثابتة ؛فالعالمية إذًا لا علاقة لها بحيازة الأرض والسيطرة على الجغرافيا ولا اعتبار لها في الأصل.
ولا ينفي هذا أن تكون للإسلام دولة ككل الدول لها عناصرها المكونة من الشعب والإقليم والسلطة السياسية ،وكون الإسلام دين ودولة هو أمر محل اتفاق بين الفقهاء ولم ينازع في ذلك إلا قلة قليلة رأيهم مردود عليهم بالأدلة الناصعة التي لا حاجة لنا في عرضها في هذا السياق إلا إن الذي يهمنا التأكيد عليه في هذا السياق هو أن قيام هذه الدولة في الإسلام ليست ضرورة لذاته، وإنما هي ضرورة لغيره، وهو تطبيق تشريعات الإسلام ومبادئه التي قوامها العدل والإحسان وتحريم العدوان وليس لتطبيق ضدها.
إذن يجب ألَّا تُتخذ هذه الدولة ـ الكيان المادي ـ بحال من الأحوال كوسيلة لتجاوز حدود العدل إلى حدود التعدي على الآخرين بلا مبرر.
ومما يؤكد هذا المفهوم الروحي للعالمية وأنه غير مرتبط بالسيطرة على الأرض بحال من الأحوال أن الإسلام أرسى مجموعة من المبادئ المستقرة التى يُلزمنا التسليم بها القولَ بالمفهوم الروحي للعالمية ،ومن هذه المبادئ :
1ـ أن الإسلام اعترف بالدول الأخرى وسلطانها ووجودها ؛ فقد راسل النبي صلى الله عليه وسلم الملوك وخاطبهم باحترام واجلال واعترف بسلطانهم على أرضهم ،فقد راسل صلى الله عليه وسلم النجاشي ملك الحبشة وكسرى ملك فارس والمقوقس ملك مصر والإسكندرية وغيرهم ،وكان رسائله صلى الله عليه وسلم مفعمة بالاحترام والتقدير مع ما كانوا عليه من مخالفة في العقيدة له صلى الله عليه وسلم ،وقد كانت رسائله صلى الله عليه وسلم في نظري هي محاولة لإقناعهم بترك رعياهم ليدينوا بما يختارون وألا يقفوا عائقًا أمام إسلام من ابتغى الإسلام دينا أو غيره، ولم يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بهجوم وإنما كان يبدأ بدفاع ضد الهجوم على تلك المبادئ ومحاولة وأدها جبرًا.
2ـ أن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم من الدول الأخرى هي علاقة السلم طبقا للرأي الراجح في الفقه الإسلامي وليست علاقة حرب قال تعالى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } سورة الأنفال الآية 61..
3ـ أن الحرب في الإسلام هي استثناء من الأصل وهي حرب دفاعية وليست هجومية ،إنما هي لرد العدوان فقط ،قال تعالى { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } سورة البقرة الآية 194.
4ـ أن الإسلام اعترف بالأديان الأخرى ودعا إلى احترام معتنقيها ومعاملتهم بالتي هي أحسن ،قال تعالى { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } سورة العنكبوت الآية 46.
فالأمر بجدال أهل الكتاب بالتي هي أحسن هو اعتراف بوجودهم ؛لأن المحاورة بحد ذاتها تتنافى مع الاقصاء وتعني الاعتراف بالآخر واحترامه ومهما استعر الخلاف الفكرى أو العقدي.
تلك المبادئ تؤكد أن عالمية الإسلام لا علاقة لها بحيازة الأرض والسيطرة عليها ،لأن القول بغير ذلك يتنافى مع تلك المبادئ قطعًا ويهدم بنيانها، فالاعتداء على أرض غير المسلمين بغير داع ـ رد العدوان ـ هو نوع من أنواع الإكراه في الدين المرفوض قطعًا في الإسلام.
وعلى ذلك تتأكد عالمية الإسلام الروحية وهيمنة مبادئه وقيمه العليا على كل قيم ومبادئ الأديان ومنسابتها لكل البشر في كل زمان ومكان، وأنها عالمية روحية وليست عالمية مادية .
وإذا خالف بعض المسلمين مفهوم هذا المبدأ في عصر من العصور وجاوز حقيقته إلى غيره ؛فإن هذا التجاوز لا يقدح في هذا المبدأ بحال ؛إذ إنها لا تعدو أن تكون أفهامًا لمعتنقيها يحاسبون عليها ولا يحمل الإسلام من أوزارها شيئا..