هل للقرآن تاريخ صلاحية ؟
هل للقرآن تاريخ صلاحية ؟
النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي , والمقصود بذلك انه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد علي العشرين عاما , وإذا كانت هذه الحقيقة تبدوا بديهية ومتفق عليها فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثم إمكانية الفهم العلمي للنص.
نصر حامد أبو زيد
هكذا أعلن أبو زيد أهم دعاة التاريخية موقفة من القران الكريم, واصفاً إياه بنص أنساني فقدت سمه الإلوهية بمجرد نزوله على النبي كما أعلن بكتابة (نقد الخطاب الديني) ..أن القرآن خطاب تاريخي لا يتضمن معنى مفارقاً جوهرياً ثابتاً… وقد تحول من لحظة نزوله من كونه (نصاً إلهياً) وصار فهماً (نصاً إنسانياً) لأنه تحول من التنزيل إلى التأويل، وهذه التاريخية تنطبق على النصوص التشريعية، وعلى نصوص العقائد والقصص، وهي تحرك دلالة النصوص وتنقلها في الغالب من الحقيقة إلى المجاز.
فما يعني هذا ؟
التاريخية مصطلح غربي يطرح كنقيض للمقدس فيكون هدفه نزع القداسة عن النص الديني وأستخدم لإسقاط حجية الأحكام الواردة في التوراة خاصة والكتب المقدسة عامة باعتبارها كانت أحكام خاصة بالفترة التاريخية التي أنزلت بها حيث نزلت متماشية مع أحوال من أنزلت عليهم وثقافتهم و عندما أنتقل المصطلح / النظرية ألي الشرق الإسلامي أرتفع الصراع مع مناهضي تطبيق الشريعة الإسلامية إلي مستوي جديد.
فتحولت حجة الرافضين للشريعة من مجرد القول أن بعض أحكامها غير ملائمة لزمننا و ظروف مجتمعاتنا إلي القول بأننا غير مخاطبين أصلا بالأحكام الشرعية بل المخاطب بها من نزلت فيهم فقط , وأن القول بغير هذا ليس تعنتاً و مجافاة لروح العصر فحسب وإنما قول مناهض للعلم وللدين معاً !
و من رؤية أبو زيد أن مفهومنا للنص مجرد تأويل يجب أن يكون لتحقيق المصلحة العامة وحتى تطرف سعيد ناشيد الذي أعلن انه لم يبقي من الإسلام إلا مبدأ التوحيد الربوبي بلا زوائد تنتمي إلي العالم القديم كالشرائع التي يصفها بالبدوية والبدائية و أن صلاحية القران انتهت إلا للوظيفة التعبدية .. تتفق كلمة الحداثيون على تاريخية النص الديني وما يقصدونه هو القرآن في المقام الأول أما السنة فلا يعترف أغلبهم بها لا من جهة الثبوت ولا من جهة الإلزامية.
فالقران عندهم ليس مقدساً فما بأيدينا هو المصحف العثماني الذي هو نسخة منقحة من المصحف المحمدي الذي هو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمة الإشارات الإلهية إلى عبارات بشرية بحسب سعيد ناشيد , ولا يوجد به ما هو قطعي الدلالة بل هو نص مثله كأي نص أخر قابل للنقد و التأويل , و ليس للإسلام من سمة عالمية وإنما هو دين العرب خاصة .
ومقتضي هذا سقوط كافة الأحكام الشرعية وأن تصبح مصطلحات الحلال والحرام بلا معني , واحتمال كافة التفسيرات والتأويلات للصواب فيتجاوز الأمر مجرد محاولة تحييد الشريعة بالعلمنة إلى نزع القيمة العملية من الدين مطلقا و وضعه في مصاف الأسطورة الشعبية.
وفي الحقيقة لا يوجد أدلة نصية يعتد بها تدعم هذا القول و محاولات الحداثيون الاستشهاد بأدلة نصية كانت فاشلة وأحيانا سخيفة كاستشهاد من لا يعتقد في حجية السنة أصلاً بحديث ( أنتم أعلم بشئون دنياكم).
وإنما حجتهم عقلية خالصة أن الخطاب ليكون مفهوم ويؤتي ثماره فذلك كما يستلزم أن يكون بلغة يفهمها المخاطبون يستلزم أن يكون على قدر أفهماهم يناقش قضايا يعيشونها بمنطق يدركونه ولهذا فالقران خطاب الله لقوم بعينهم كما كانت التوراة و الإنجيل خطابات للأقوام الذين نزلت فيهم .
أما الآيات و الأحاديث المتواترة التي تناقض هذا القول والتي تقطع بأن الأسلام هو الدين العالمي وليس لقوم خاصة وان أحكامه باقية مادام في الناس أثنين وانها غير قابلة للتجزئة يؤمن ببعضها ويكفر ببعض , فلم يجدوا وسيلة للالتفاف حولها إلا القول بأنها قابلة للتأويل بما لا يخالف نظريتهم !
وعلي الرغم من حداثة هذا القول إلا أن جذوره وجدت في الماضي.
فاغلب علماء المسلمون يجيزون التأويل (صرف النص عن ظاهره بقرينة تستوجب هذا العدول) و يقولون أن كلمات القران منها الحقيقي ومنها المجازي ولكنهم اشترطوا لتأويل الآيات و الأحاديث أن يكون اللفظ يحتمل عده معاني في اللغة وأن يكون تأويل اللفظ إلي معني غير الظاهر بدليل قوي يرجح هذا المعني و أن لا يكون متعارضا مع نص أخر قطعي .
فالتأويل عندهم جزء من منهجية الاجتهاد أما الحداثيون فلا يقدمون منهجا لهذا التأويل بل يرون أعماله في كل ما يعارض منطقهم .
والشريعة الإسلامية تنقسم الي عقائد لا محل للقول بتاريخيتها, وأخلاقيات لا يمكن القول بنسبيتها إلا بإنكار الفطرة وهذا ما يمثل جحوداً للدين بأسره , والأحكام الشرعية أما عملية أو تعبدية ولا يمكن التحجج بالظروف في إسقاط العبادة إلا أن كان بها من المشقة ما يفوق الاحتمال وهذا ما تسعه الرخص الشرعية ولكن بعض الحداثيون ادعي تاريخية حتى العبادات ونادي بتصدي الدولة لإلغاء بعضها كالصيام و الحج !
أما الأحكام العملية كحرمة الربا و الزنا و الحدود الخ فهي جوهر الصراع فما اخترعت التاريخية إلا لأسقطها .
و الحقيقة أن الكثير من المسلمين يجدون في صدورهم شيء من بعض الأحكام الشرعية كالحدود و يرونها ثقيلة على نفوسهم يصعب على عقولهم تقبلها..
والقول بأن شعورهم هذا أنما هو مجرد أثر للخلل في ثقافتهم التي خالطتها ثقافة الغرب حتى غلبت عليها , لا ينفي المشكلة و أنما يقترح أصلاً لها ولا ينفي القضية الأصلية أن الثقافات تتغير بتغير الزمان والمكان ..
و الواقع أن السلف قد أعترف بضرورة تغير القضاء بتغير الأعراف و الظروف الواقعية ففرقوا بين الحكم و الفتوى وهذا ما لم يدركه الحداثيون (في مفارقة مضحكة) لضعف ثقافاتهم الشرعية فالفتوى تتغير بتغير أحوال المستفتين و ظروفهم لتحقق غايات الأحكام بينما الأصول الشرعية ثابتة.
والشريعة الإسلامية كما يعبر بن تيمية مبناها على تحصيل المصالح و تكميلها ودرء المفاسد وتقليلها والورع ترجيح خير الخيرين بتفويق أدناهما و دفع شر الشرين وإن حصل أدناهم , فإن كانت المصلحة (الحقيقية التي تشهد لها أدلة أو مقاصد الشرع) تقتضي وقف أو تعطيل الحكم الشرعي الثابت بالدليل والفتوى بغيره فيجوز ذلك أن كان تطبيق الأصل يوقع المكلفين فى الحرج ويضع عليهم عبء يفوق طاقتهم أو يتسبب في ضياع مصلحة جوهرية أو يحيق بهم ضرر بالغ .
فإنما مراد الله من الأحكام تحقيق مصلحة المكلفين الدنيوية و الأخروية ولم يفترضها رب العزة على عبادة تعنتاً فما جعل علينا في الدين من حرج ولهذا اتفقت كلمة أهل الفقه على أن المشقة تجلب التيسير و على إفتاء الناس بما يخالف النصوص عند الضرورة.
ومن أشهر تطبيقات ذلك ضالة الإبل حيث كانت في عهد رسول الله و صاحبيه تترك لشأنها حتى يجدها صاحبها ثم رأى عثمان الطمع في عهدة فأمر بأن تباع و يحفظ ثمنها لصاحبها.
و ما ذهب التابعين من جواز التسعير الجبري للسلع رغم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم الصريح عنه لشدة الحاجة إليه في عصرهم لمجابهة جشع التجار الذين غالوا في الأسعار بدون مبرر ثم ذهب بن تيمية لجعل التسعير بيد جماعة التجار فيحددوا هم السعر العادل في أوقات الضيق و لما ارتفعت الحاجة وذهبت الحالة الاستثنائية عاد الحكم الأصلي بعدم جواز التسعير
تبديلا لشرع الله وإنما تطبيقا له بادلته المعتمدة. وليس في ذلك
والفارق بين هذا و بين ادعاء التاريخية هو أن الرخص الفقهية أنما تستمد من مقاصد الشريعة و تجد أدلتها في القرآن و السنة.
وتلك أحدى إشكاليات القول بالتاريخية فكيف يعلوا حكم الفرد على حكم الله ؟ و أن قال أحد أن لائحة أعلى مرتبة من الدستور حكمنا بعدم فهمه للتشريع.
ومن ناحية أخرى فإن سلمنا أن بعض الأحكام التي أنزلت علي الأنبياء كانت خاصة بأقوامهم, فهل يصح في جانب رب العزة أن يترك الخلق للأهواء بلا هدى أن كانت الأحكام القرآنية تاريخية انقضى أثرها ؟ وكيف نفسر أن يهب قوماً تنظيما تشريعياً متكاملاً و يترك من يأتون بعدهم بلا شيء ؟
فأما أن نكذب الله ورسوله ونقول أن الإسلام ليس أخر الأديان و محمد ليس أخر الأنبياء أو نصدقهم ولا نحمل النصوص مالا تحتمل .
والأحكام لا تستنبط من ظاهر النص فحسب بل ومن دلالة المطابقة و مفهوم الموافقة و مفهوم المخالفة الخ , فالنص الذي يرسي حكماً أخلاقياً يستنبط منه أخر عملياً و العكس فلا يمكن تقسيم آيات الكتاب إلى آيات أحكام وأخرى أخلاقية وثالثة عقائدية تقسيم جامع مانع .
فأما إسقاط حجية القرآن بالكامل وأما الاعتراف بأن هذه النظرية الغربية غير قابله للتطبيق عليه.
وأخيراً فالموضوع الذي قد يظهر نخبوياً ليس كذالك وإنما هو في صلب موضوعات كبري تشغل الكثير من العقول المسلمة ويناقش أسئلة تدور في عقولهم وتحتاج من أهل الدين لإجابات مقنعه .
أحمد فتحي سليمان
https://www.facebook.com/ahmed.fathie.7