جدلية النص والواقع عند نصر حامد أبو زيد – بقلم: حسين جبار
جدلية النص/الواقع:
إن كل نص يطرح مجموعة من المفاهيم عن نفسه، كما أن الثقافة التي تحتضن النص، أو التي يحتضنها النص تطرح بدورها مجموعة من الحقائق حوله. يذهب أبو زيد إلى نهاية هذه العلاقة الجدلية بين النص و الثقافة ليقول جملته التي أصبحت سبة عليه و بابا لرميه بأنه ينكر المصدر الإلهي للنص. يقول: ((إن النص في حقيقته و جوهره منتج ثقافي)). و هذه الحقيقة مصدرها هو أن النص ((تشكل في الواقع و الثقافة خلال فترة تزيد على عشرين عاما)). ثم يقول ((إن الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، و من ثم لامكانية أي وجود سابق لوجوده العيني في الواقع و الثقافة، أمر لا يتعارض مع تحليل النص من خلال فهم الثقافة التي ينتمي إليها)). هكذا تصل جدلية النص/الواقع إلى ذروتها في خطاب أبو زيد، دون أن يتعارض ذلك، برأيه، مع الإيمان بالمصدر الإلهي للنص، بل ينفي التعارض حتى مع الوجود السابق للوجود العيني، و إن كان يرى في الوقت نفسه أن ((الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص يعود لكي يطمس هذه البديهية[بديهية تشكل النص من خلال الثقافة] و يعكر من ثم امكانية الفهم العلمي لظاهرة النص)). فهل يناقض أبو زيد نفسه هنا عندما ينتقد الإيمان بوجود ميتافيزيقي سابق للنص، ثم يقرر عدم تناقض هذا الإيمان مع تشكل النص في الثقافة؟ في الحالة الأولى يبدو أبو زيد متسقا مع منهجه، أما في الحالة الثانية فيبدو أنه وقع تحت ضغط الخطاب الإسلامي السائد و المؤمن بذلك الوجود الميتافيزيقي للنص، فاضطر لتقديم هذه الـ “ترضية”، و الدليل أن الإيمان بذلك الوجود الميتافيزيقي كان له دائما موضع انتقاد من قبل أبو زيد في كل مناسبة يتطرق له فيها -و سيأتي شاهد هذا القول-، و من جهة الأخرى، لا معنى أساسا للحديث عن ثقافة و تشكل و انتاج (المفاهيم التي يستخدمها أبو زيد) إذا آمنا أن النص كان له وجود سابق على الثقافة و الواقع.
تمثل اللغة بطبيعة الحال أول مظهر من مظاهر تشكل النص في الثقافة، ((و ليس اختيار اللغة اختيارا لوعاء فارغ و إن كان ذلك ما يؤكده الخطاب الديني المعاصر، ذلك أن اللغة أهم أدوات الجماعة في إدراك العالم و تنظيمه. و على ذلك لا يمكن أن نتحدث عن لغة مفارقة للثقافة و الواقع، و لا يمكن من ثم أن نتحدث عن نص مفارق للثقافة و الواقع أيضا طالما أنه نص داخل اطار النظام اللغوي للثقافة)).
إن كون القرآن رسالة كما يصف نفسه، ((و الرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل و مستقبل من خلال شفرة، أو نظام لغوي. و لما كان المرسل في حالة القرآن[=الله] لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي، فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع و الثقافة، الواقع الذي ينتظم حركة البشر المخاطبين بالنص و ينتظم المستقبل الأول للنص و هو الرسول، و الثقافة التي تتجسد في اللغة)).
ثم يبين أبو زيد الوجه الآخر للعلاقة الجدلية بين النص و الواقع، فكون النص منتَج ثقافي فهذا ((يمثل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين و الإكتمال)) و لكن بعد هذه المرحلة صار النص منتِجا للثقافة، ((بمعنى أنه صار هو النص المهيمن المسيطر الذي تقاس عليه النصوص الأخرى و تحدد به مشروعيتها)). و ((الفارق بين المرحلتين في تأريخ النص هو الفارق بين استمداده من الثقافة و تعبيره عنها و بين إمداده للثقافة و تغييره لها)).
و لكن هاتين المرحتين ليستا متقابلتين و متعارضتين، فالنص في مرحلته الأولى ليس مجرد حامل سلبي للثقافة، فقد كانت له فعاليته الخاصة في تجسيد الثقافة و الواقع، حيث يجسدهما ((تجسيدا يعيد بناء معطياتهما في نسق جديد)). و في المرحلة الثانية، تكون للثقافة ((آلياتها الخاصة في التعامل مع النص و ذلك بإعادة قراءته و تأويله)).
في المنهج.
يعتمد ابو زيد في دراسته هذه ((بصفة أساسية المدخل اللغوي)). و للنصوص اللغوية وظيفتان أساسيتان:
الأولى- أنها ((ليست إلا طرائق لتمثيل الواقع و الكشف عنه بفعالية خاصة)).
الثانية- ((وظيفتها الإتصالية التي تفترض علاقة بين متكلم و مخاطَب و بين مرسل و مستقبل)).
و برأي أبو زيد فإن المنهج اللغوي هو ((المنهج الوحيد الممكن من حيث تلاؤمه مع موضوع الدرس و مادته)). و هو ينطلق هنا من حقيقتين مسلمتين:
الأولى- ((أن الإسلام يقوم على أصلين هما “القرآن” و “الحديث” النبوي الصحيح)).
الثانية- ((أن هذه النصوص [=نصوص القرآن و الحديث] لم تُلْق كاملة و نهائية في لحظة
Samah Abdallah
واحدة، بل هي نصوص لغوية تشكلت خلال فترة زادت على العشرن عاما)).
الديالكتيك الهابط و الديالكتيك الصاعد.
الديالكتيك الهابط- تمثله المناهج التي تعطي الأولوية عند مناقشة النصوص الدينية ((للحديث عن “الله” عز و جل (قائل النص) ثم يلي ذلك الحديث عن النبي (ص) (المستقبل الأول) للنص، ثم يلي ذلك الحديث عن الواقع تحت عناوين “أسباب النزول” و “المكي و المدني” و “الناسخ و المنسوخ”)). و هذه (برأي أبو زيد دائما) هي المناهج ((التي يتبناها الخطاب الديني المعاصر)).
الديالكتيك الصاعد- يمثله المنهج الذي ((يبدأ بالحسي و العيني صعودا، يبدأ من الحقائق و البديهيات ليصل إلى المجهول و يكشف عما هو خفي)) و هذا ما يراه أبو زيد لمنهجه.
و يأمل أبو زيد أن يتجاوز بمنهجه معضلتان يقع فيهما المنهج الأول:
الأولى- ((أن معضلة المنهج الأول انه يعتمد على التأمل، و من ثم يكون عرضة للانغماس في الأقاويل الخطابية)).
الثانية- ((خطر الوقوع في شبكة “الإجابات الجاهزة” و الانسياق في دوامة “التشويش الأيديولوجي)).”
مفهوم الوحي.
إن ظاهرة الوحي لم تكن ظاهرة مفارقة لواقع الثقافة العربية. و بالرغم من أن ((الحديث عن الوحي في القرآن ينقلنا إلى مجال أكثر تعقيدا حيث تكون عملية الاتصال/الوحي بين طرفين لا ينتميان إلى نفس المرتبة الوجودية. و مع ذلك فقد كان هذا المفهوم أيضا – مفهوم الاتصال بين مراتب وجودية مختلفة- مفهوما مألوفا في الثقافة العربية قبل الإسلام)). من هنا يرى أبو زيد أنه ((كان ارتباط ظاهرتي “الشعر و الكهانة” بالجن في العقل العربي، و ما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بامكانية الاتصال بين البشر و الجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي ذاتها)).
بل إننا ((لو تصورنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمراً مستحيلاً من الوجهة الثقافية)). من هنا فنحن ((لا نجد من العرب المعاصرين لنزول القرآن اعتراضاً على ظاهرة الوحي ذاتها، و إنما انصب الاعتراض إما على مضمون كلام الوحي أو على شخص الموحى إليه)).
يحاول أبو زيد ان يطبق ما تحدث عنه حول مفهوم التشكل و التشكيل (المرحلة الأولى و الثانية) من خلال قراءة ظاهرة الجن و اتصال البشر بها، حيث يمثل هذا المرحلة الأولى، ثم من خلال توظيف النص لهذه الظاهرة في المرحلة الثانية حيث النص هو المسيطر. فيلاحظ من خلال قراءة الآيات الأولى من سورة “الجن”، ((أن النص هنا و هو يصوغ الواقع يصوغه بطريقة بنائية خاصة تعيد تركيبه في نسق جديد)). و ((إن النص هنا و إن كان يمثل الواقع الذي ينتمي إليه يعيد تشكيل هذا الواقع من خلال آلياته اللغوية الخاصة)) و هكذا فقد ((صار الجن في النص جنا مؤمنا مسلما يدين سلوكه السابق و يدين البشر الذين كانوا يعوذون به “رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا”)).
ثم يعقد أبو زيد مقارنة سريعة بين مفهوم الجن في سورة “الناس” و المفهوم ذاته في سورة “الجن” على أساس ان الاولى سابقة على الثانية في ترتيب النزول. فيميز بين صورتين: ((صورة الجن الخناس الموسوس الذي يستعاذ بالله منه، و صورة الجن الذي يشبه البشر في انقسامه إلى مؤمنين و كافرين)). ((و لا شك أن الصورة الصورة الثانية تعد نوعا من التطوير القرآني النابع من التوافق مع معطيات الثقافة من جهة و الهادف إلى تطويرها لمصلحة الإسلام من جهة أخرى)).
الوحي بالقرآن.
هناك ثلاث طرائق لاتصال الله بالبشر:
الأولى- الوحي، (و هو ما يطلق عليه العلماء “الالهام” مثل الوحي لأم موسى و إلى النحل و إلى الملائكة و كل وحي يتميز بالخصوصية و السرية)).
الثانية- ((الكلام من وراء حجاب و ذلك كلامه لموسى من وراء حجاب الشجرة و النار و الجبل)).
الثالثة- ((الوحي غير المباشر عن طريق الرسول الملك الذي يوحي للمستَقبِل بإذن الله ما يشاء)). و معلوم أن “هذه الطريقة كانت هي الطريقة التي تم بها القاء القرآن و تنزيله)).
ثم يناقش أبو زيد بعض القضايا المرتبطة بالوحي:
القضية الأولى-((كيف كان الإتصال على المستوى الرأسي بين الله و جبريل و أي شفرة استخدمت في هذا الإتصال؟)).
الرأي الأول-ما يقرره الزركشي في البرهان في علوم القرآن و هو ((أن الله أفهم كلامه جبريل، و هو عال في السماء، و هو عال من المكان، و علمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض و هو يهبط في المكان)).
و هذا الرأي ((يتصور للنص وجوداً خطياً سابقاً في اللوح المحفوظ)) و هذا الرأي يؤدي إلى نتيجتين:
الاولى- ((اهدار لجدلية العلاقة بين النص و الواقع الثقافي)).
الثانية- ((الإيمان بعمق دلالته [القرآن] و تعدد مستوياتها. […] لكن ربط تعدد مستويات الدلالة بالأصل الإلهي و الوجود الأزلي أدى إلى استغلاق معنى النص نتيجة استحالة النفاذ إلى مستويات معانيه في نهاية الأمر)).
الرأي الثاني- ((يجعل الصياغة اللغوية مهمة جبريل مرة، و يجعلها مهمة محمد مرة أخرى)).
((و يفترض هذا الرأي أن للملائكة نظاما لغويا، و يفترض علاوة على ذلك أن هذا النظام اللغوي هو اللغة العربية)).
القضية الثانية-((كيف أمكن هذا الإتصال مع التغاير في الطبيعة الناتج عن اختلاف مراتب الوجود؟)).
((و كانت الإجابة [استنادا إلى الزركشي] أن ثمة تحولا يحدث في أحد طرفي الإتصال حتى يمكنه الاتصال بالطرف الآخر:
أحدهما أن الرسول(ص) انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملائكة و أخذه من جبريل، و الثاني أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذ الرسول منه. و الأول أصعب الحالين)).
و يذهب أبو زيد إلى أن ((الحالة الأولى يمكن ان تكون حالة الوحي بالسنة، بينما تكون الحالة الثانية خاصة بالوحي بالقرآن)).
و مهم أن نلاحظ ((أن مفهوم “الانسلاخ عن البشرية” و التحول إلى الملكية في حالة الوحي الأولى ليس مقصودا معناه الحرفي بالتحول الفيزيقي كما يفهم من منطوقه، فالتغير الذي كان يلاحظ على النبي تغير طارئ طفيف و ليس تحولاً بالمعنى الذي تنبئ به لفظة “الانسلاخ” أو “الانخلاع”)).
ثم يستدعي أبو زيد نظرية “الخيال” عند الفلاسفة و المتصوفة و التي يفسرون بها “النبوة”. و هذا معناه ((أن ذلك الانتقال من عالم البشر إلى عالم الملائكة انتقال يتم من خلال فاعلية “المخيلة” الانسانية التي تكون في “الأنبياء”- بحكم الاصطفاء و الفطرة- أقوى منها عند من سواهم من البشر)). فيكون النبي في مصاف “الشعراء” و “العارفين” القادرن ((دون غيرهم على استخدام فاعلية “المخيلة” في اليقظة و النوم على السواء)) و إن كانت هذه المستويات غير متساوية من حيث قدرة “المخيلة” و فاعليتها، ((فالنبي يأتي دون شك على قمة الترتيب، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب)).
و يذهب أيضا إلى أن المرحلة الأولى من مراحل الوحي كانت ((مرحلة أشبه بالرؤيا)) ثم بعد ((التعود و الإلفة -مع توالي عملية الإتصال- جعلت الوحي ممكناً في حالة اليقظة بالكلام اللغوي العادي)). و ابو زيد و إن كان يقول هذا في سياق السؤال “هل يمكن أن نقول أن …؟” فهو يؤكد بعدها مباشرة أن الحقائق تتظافر لتجيب بالإيجاب.
ثم يقرر أبو زيد النتيجة المنطقية لتلك المقدمات و هي أنه ((في ظل هذا التصور لا تكون “النبوة” ظاهرة فوقية مفارقة. بل تصبح قابلة للفهم و الاستيعاب)).
القرآن و الكتاب.
يرى أبو زيد أن كلمة “قرآن” هي مصدر من “قرأ” بمعنى الترديد (ردَّدَ) لا الجمع (جَمَعَ).
و هذا الإسم “قرآن” هو ا سم مخالف ((لما سمى العرب كلامهم على الجملة و التفصيل، سمى [الله] جملته قرآنا كما سموا ديوانا و بعضه سورة كقصيدة، و بعضه آية كالبيت و آخرها فاصلة كقافية)). و هكذا يفرض النص تميزه على الثقافة التي تشكل من خلالها.
و لفظ “الكتاب” الذي يطلقه النص على نفسه له دلالة الحلقة الفاصلة بين مرحلتين: مرحلة الشفاهية و مرحلة التدوين. هذا من جهة، و من جهة أخرى فإن النص كان ((يميز نفسه عن ثقافة “الأميين” بأنه كتاب، و كان يميز نفسه أيضا عن ثقافة “أهل الكتاب” بأنه “كتاب عربي” او “بلسان عربي”)).
((و حين نقول أن النص قد ساهم في تحويل الثقافة من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين عن طريق اضفاء اسم “الكتاب” على نفسه و عن طريق نفي دلالة “الوحي” بما يرتبط به من سرية و غموض عن معنى “الكتابة” فاننا لا نقصد بالنص مجرد المعطى اللغوي، بل نقصد فعالية النص من خلال مجموعة البشر الذين اعتبروه نصهم الأساسي)).
الرسالة و البلاغ.
ان الرسالة المتضمنة في عملية الاتصال/الوحي ليست خاصة بالمتلقي الأول، و لكنها رسالة مطلوب تبليغها للناس و إعلامهم بها. و ((كون النص بلاغا معناه ان المخاطبين به هم الناس جميعا)). ((إن مفهوم “التنزيل” هنا لابد أن يفهم بوصفه تنزيلا إلى الناس عبر وسيطين: الاول المَلَك، و الوسيط الثاني محمد البشر)). (إنها رسالة السماء إلى الأرض، و لكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين الواقع بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية و أهمها البناء الثقافي)).
((إن “الناس” هم هدف الوحي و غايته)) و ((في مثل هذا التصور الذي يطرحه النص عن نفسه، من خلال الثقافة و نظامها اللغوي، يصبح التركيز على مصدر النص و قائله فقط اهداراً لطبيعة النص ذاته، و إهداراً لوظيفته في الواقع، و هو ما حدث في الفكر الديني الذي سيطر على التراث و الذي ما زال فاعلا في ثقافتنا إلى اليوم)).
المصدر: كتاب مفهوم النص- دراسة في علوم القرآن
تأليف د.نصر حامد أبو زيد
طبعة 2014 المركز الثقافي العربي
تاريخ النشر الأصلي: ١٩٩٠