كيف سبقت أفكار مونتسيكو الزمن ؟ – بقلم: سامح عبد الله
إذا قمنا بمحاولة إحصاء هؤلاء الذين سبقت أفكارهم الزمن عبر تاريخ الإنسانية سيكون ” شارل دى سيكوندا” المعروف بمونتسكيو أحدهم لا جدال فى ذلك.
فوصف مفكر (من وجهة نظرى) يُوضع صاحبه موضع تجربة قبل أن يكتسبه وهى أن يتجاوز فكره الواقع وأن تلتقط أجيال لم تكن موجودة أفكاره بل وأن تكون تلك الأفكار وقود الثورات.
وهذا الأمر ينطبق على هذا المفكر تماما.
ألف أول كتاب له قبل أن يبلغ الثلاثين من العمر وهو كتاب “الرسائل الفارسية” وتدور فكرته حول رسائل أرسلها أجانب إلى مواطنيهم فى إيران ينتقد فيها مونتسيكو نقداً لاذعاً العادات الفرنسية والتعصب الدينى الذى كان سائداً فى عصر لويس الرابع عشر.
ثم كان كتابه ” اعتبارات وخواطر حول سياسة الرومان” والذى رأى فيه بأن انحطاط الأمبراطورية الرومانية كان سببه تناسى الرومان مبدأً مهمًا فى الحياة وهو الاعتدال فى الاستهلاك، استهلاك أى شىء!
أما أعظم مؤلفاته على الإطلاق ولعل هذا ما جعلنا نتكلم عن الرجل هو مؤلفه ” روح القوانين” الذى ألفه فى عشرين عاماً
ľ esprit des lois وسبق فيه فكره الزمن فقد كان أول من نادى بنظرية ” الفصل بين السلطات”وقد قال فيه مونتسيكو بأن مبرر كل نظام حكم هو ضمان حرية الإنسان وصيانة حقوقه ومن أجل ذلك يجب الفصل بين السلطات والحفاظ على التوازن بينها.
ثم قسم سلطات الدولة إلى ثلاث:
السلطة التشريعية: مهمتها وضع القوانين وتعديلها وإلغاؤها ثم مراقبة تنفيذها وسواء كانت تتكون من مجلس واحد أو مجلسين.
السلطة التنفيذية: ويناط بها تنفيذ القانون ومباشرة العلاقات الديبلوماسية مع الدول وحماية الأمن الداخلى والخارجى.
السلطة القضائية: وتتكون من قضاة مهمتهم تطبيق القانون.
لم يرد مونتسكيو أن يكون هذا الفصل تاماً بل كل ما كان يهمه ألا تطغى سلطة على آخر مع وجود توازن فيما بينها يكفل تحقيق الغاية التى وُضعت هذه النظرية من أجلها وهى الحرية ..حرية الإنسان!
فالسلطة المطلقة هى بحق مفسدة مطلقة!
ورغم ان مونتسيكو هو صاحب نظرية الفصل بين السلطات أو على الأقل أول من نادى بها إلا أنه لم ينكر دور المجتمع المدنى بل قال أن سلطة المجتمع المدنى أهم من السلطات الثلاث كلها لأن هذه السلطات هى نتاج للمجتمع المدنى وامتداد له.
ولعل من أجل ذلك تتصدر كل دساتير العالم هذه العبارة الجليلة ” الشعب مصدر السلطات’
وكان مونتسيكو قد حدد نظم الحكم فيما يلى:
النظام الملكى حيث ينتقل فيه الحكم عن طريق الوراثة.
والنظام الجمهورى حيث يحكم الشعب فيه الشعب أو ممثلوه ويرتكز الحكم على الوطنية ( الديمقراطية)
والنظام الديكتاتورى وهو يقوم على أساس الحكم المطلق بنهج أسلوب التخويف فى حق الشعب.
لكم أن تتخيلوا أن تخرج نظرية وأفكار كهذه وسط سياسة كان يقول فيها الملك ” أنا الدولة والدولة أنا”، ووسط عصر كانت الكنيسة الكاثوليكية فى روما تُمثل كل شىء وهو ما جعل هذا المؤلف العظيم على القائمة السوداء المحرمة قراءتها فى نظر السلطة الدينية التى تمثلها الكنيسة!
هذه هى عبقرية الفكرة، لا لأنها تأتى عكس الإتجاه فحسب بل لأنها تتخطى الزمن ليلحق بها الزمن هو وهذا موضع العبقرية!..
انظروا ماذا كان تأثير هذه النظرية على النظم الدستورية والسياسة فى العالم ككل:
لقد استوحى الدستور الأمريكى هذه النظرية وكذلك إعلان حقوق الإنسان والمواطن فى فرنسا ثم لم يعد دستوراً على وجه الأرض منها يخلو منها!
والعجيب أن العلامة رفاعه الطهطاوي كان قد ترجم هذا المؤلف العظيم إلى العربية ضمن حركة ترجمة واسعة شهدها القرن الثامن عشر فقد كان العلامة الطهطاوى هو الآخر من فصيلة هؤلاء الذين يسيرون عكس الإتجاه ثم تسبق أفكارهم الزمن!
من أقوال مونتسكيو الخالدة :
” عندما أتصرف حيال أمر ما أكون مواطناً ولكن عندما أكتب أكون إنساناً”
“أنا إنسان قبل أن أكون فرنسياً ذلك لأننى إنسان بقوة الضرورة ولست فرنسيًا إلا بحكم بالمصادفة”
مات مونتسيكو عام 1755 بعد أن أعلى مقام الإنسان والحرية وبعد أن بغض فى كل كتاباته التسلط والدكتاتورية حتى أنه لُقب بفيلسوف الحرية.
مات مونتسيكو قبل انطلاق الثوره الفرنسية بما يقرب من أربعة عقود بينما كانت كلماته هى الشرارة الأولى لها ثم كانت هى الملهم الأول لكل الدساتير التى وُضعت بعد رحيله قبل ذلك بأربعة قرون وحتى وقتنا هذا.
هل رأيتم ماذا يعنى أن يسبق الفكر الزمن، إنه المعنى الواضح للخلود!