مفهوم الأيديولوجيا: النشأة والسياق التاريخي – د. محمد عجلان
إن الغموض الذي يكتنف مفهوم الأيديولوجيا Ideology يرجع بالأساس إلى سعة مدلوله وتنوع استعمالاته، متسقا في ذلك مع غيره من مفاهيم العلوم الاجتماعية، وإن كان في واقع الأمر يفوق تلك المفاهيم التباسا وغموضا نظرا للأبعاد التطبيقية للأيديولوجيا، والتي ساهمت بدرجة كبيرة في زيادة التباس المفهوم وغموضه. أضف إلى ذلك أن مصطلح الأيديولوجيا تزاحمه العديد من المصطلحات المشابهة، مثل عقيدة، وعقلية، ومذهب، ورأى، وفكر، ومنظومة فكرية، وثقافة، وما ماثلها من المصطلحات، مما يورط المفهوم أكثر في دوائر الغموض والالتباس.
وإذا بدأنا بالاشتقاق اللغوي سنجد أن كلمة أيديولوجيا تتكون من مقطعين هما Idea وتعنى فكرة، Logy وتعنى علم، وبالتالي فإن معنى كلمة أيديولوجيا لغويا هو (علم الأفكار) أو علم دراسة الأفكار. ولقد صكّ الفيلسوف الفرنسي ديستوت دي تراسي (1754 – 1836) هذا المصطلح، ثم انتقل المصطلح بعد ذلك إلى اللغات الأخرى.
لقد كان هدف دي تراسي وأنصاره من الأيديولوجيين تأسيس علم جديد للأفكار، يقوم بدراسة وفهم الأفكار والمفاهيم المجردة وتكوينها وشروط مطابقتها للحقيقة؛ حتى يكون الفكر متمتعاً بنفس درجة اليقين التي تتمتع بها العلوم الطبيعية. وكان الأمل يحدوهم في تحرير علم الإنسان من الآراء المسبقة والأساطير، بما يجعله متمتعا بنفس يقين علوم الطبيعة، وقائماً مثلها على الملاحظة والتجربة ([1]).
ولعل الداعي الرئيسي إلى ذلك الاتجاه الجديد هو معايشته لفترة الغليان التي واكبت الثورة الفرنسية، حيث كان يهدف إلى نقد الأفكار الفلسفية التي سادت فترة ما قبل الثورة باعتبارها غير صالحة لمفاهيم العصر الثوري الذى تغيرت فيه العقائد الفكرية، لاسيما وأن تلك المفاهيم ترجع في أصولها إلى العصور الوسطى التي كانت تعتمد على هذه الميتافيزيقا، التي أراد دي تراسي هدمها؛ لعدم مواءمتها للمنطلقات الفكرية الجديدة التي يجب أن يقوم بناؤها على علم جديد يتفادى ما وقع فيه فكر العصور الوسطى من أخطاء؛ ولذلك يكون دي تراسي قد أقدم على عمل ثوري في مجال الفكر تمشياً مع ما كان سائداً في تلك الفترة من إحداث التغييرات التي استلزمتها الثورة الفرنسية([2]).
ورغم بدايات المفهوم المتوافقة مع متغيرات المرحلة والداعمة للثورة الفرنسية، حيث كانت تمثل الغطاء الفكري لتلك الثورة، إلا أن التحولات في مسار الثورة الفرنسية انعكست بالسلب على الأيديولوجيا وفلاسفتها، فقد اكتسب المفهوم معان سلبية حين استخدمه نابليون Napoleon Bonaparte (1769 -1821) للسخرية من أعضاء شعبة العلوم الأخلاقية والسياسية في معهد فرنسا (الأكاديمية الآن) وكلهم أصدقاء دي تراسي، والمفكرين المتنورين الذين ناهضوا سلطته المطلقة، فأسماهم بالأيديولوجيين.
وإذا كان نابليون هو الذي أعطى الكلمة معنى الحلم الطوباوي العاجز عن مواجهة الواقع وعن التأثير فيه، فإننا لا نستطيع أن نتجاهل أن كراهيته للأيديولوجيا تعود إلى خوفه منها ومن وظيفة النقد أو النقض التي يمكن أن تؤديها. وقد نحتت مدام دي ستال Madame de Stael (1766 -1817) نصيرة الأيديولوجيين كلمة جديدة لتشير بها إلى خوف نابليون من الأيديولوجيا هي كلمة الأيديوفوبيا Ideophobia وترجمتها الحرفية “الخوف من الأفكار”([3]). وكانت هذه الكلمة التي صكتها مدام دي ستال خير رد من الأيديولوجيين على تهكم نابليون وأي حاكم مستبد يضيق بسلطان الفكر، وخير دفاع عن الوظيفة العملية للأيديولوجيا ([4]). فالأيديوفوبيا تعنى ضمنا أن الأيديولوجيا ليست ثرثرة فارغة لا طائل تحتها، ولا صلة لها بالواقع، وأنها على العكس من ذلك ذات تأثير كبير عليه ([5]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مالك أبوشهيوة: الأيديولوجيا والسياسة، دراسات في الأيديولوجيات السياسية المعاصرة، جـ1، ط2 (ليبيا: الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، 1995) ص: 19 – 20.
(2) عبد الرحمن خليفة وفضل الله محمد إسماعيل: في الأيديولوجيا والحضارة والعولمة، ط1 (كفر الدوار: بستان المعرفة لطبع ونشر وتوزيع الكتب، 2001) ص: 14 – 15.
(3) سمير أيوب: تأثيرات الأيديولوجيا في علم الاجتماع، ط1 (بيروت: معهد الإنماء العربي، 1983) ص: 29 – 30.
(4) أمين حافظ السعدني: أيديولوجية السلطة السياسية في المذهبين الليبرالي والاشتراكي (شبين الكوم: مطابع جامعة المنوفية، 1999) ص: 13.
(5) سمير أيوب، المرجع السابق، ص: 30.