هل الإنسان خيِّر بفطرته أم شرير بفطرته؟ – بقلم: مهند عجلاني
تبدو الإجابة لي في البداية أن الإنسان شرير بفطرته، خاصة عندما أرى أن البشرية لم تعيش في سلام سوى فترات قليلة مقارنة بفترات الحروب والنزاعات التي شهدتها البشرية والتي تمثل الجزء الأكبر من التاريخ المعروف، حينها أدرك أن الإنسان شرير بفطرته محاولا إشباع غرائزه الحيوانية بأي الوسائل المتاحة ولم يمنعه ذلك شرائع ولا قوانين.
كانت هذه الشرائع والقوانين مهدئة له عن كبح غرائزه الحيوانية لفترات مؤقتة فقط، ولكن ما أن تتيح له الفرصة لفعل الشر وانتهاك الحرمات حتى يرتكب أفظع القبائح، وقد يبررها بالشرائع والقوانين أيضا!. الإنسان يعبد ذاته ولا يقوم بالخير غالبا سوى إظهار لنفسه أو لمصلحة ومنفعة، وبالتالي يصبح هذا الخير شرا لأنه ليس غاية لأجل الخير بل لأجل نفس الإنسان الأنانية. وقد عزى العالم أيريك فروم نزعة الإنسان للشر إلى ثلاثة أسباب أحدها هي النرجسية الشريرة لدى الإنسان، وقديما أشار توماس هوبز إلى أن الطبيعة الحقيقية للإنسان هي الشر ولكن بما أنه يملك العقل يجد نفسه مضطرا أن لا يخضع لغرائزه الحيوانية ويلتزم بالقوانين والشرائع.
أما سقراط أبدى رأيا مهما في هذا الشأن يستحق النظر عنده وأتى من بعده أفلاطون أكد رأيه، وهو أن الجهل أصل الشرور، فليس هناك إنسان يقدم على فعل الشر إلا إذا كان جاهلا. وهو صحيح بالتأكيد فالجهل أحد أهم أسباب الشرور، والجهل لا يمكن أن يكون فقط عدم المعرفة بل يكون أحيانا ناتجا عن المعرفة نفسها، عندما تُجنَّد المعرفة لخدمة الجهل والعلم الزائف أو الضار، وعندما تنقص خبرات وتجارب الشخص ولا يخوض في هذا العالم جيدا، هذا نوع من ضروب الجهل أيضا وهو يؤدي إلى الشر بالتأكيد.
ربما انتقصت من قدر الإنسان قليلا مع أني أؤمن بذلك بعد، ولكن يجب علي ألا أنسى أيضا أن الإنسان أفضل المخلوقات شرفا ومرتبة. فقد مجَّد ابن عربي الإنسان ووصفه بأنه أشرف المخلوقات ولو لم يكن كذلك لما أعطاه الله العقل وجعله خليفة في أرضه.
ويرى جان جاك روسو أن الحالة الطبيعية للإنسان هي الخير وليس الشر، فهو كائن أشبه بالحيوانات يحاول إشباع حاجاته ورغباته ضمن حدود وقوانين معينة، ملبيا بذلك حاجاته الغريزية كأي حيوان آخر، إلا أنه يمتلك العقل الذي يمكّنه من خلق نظام إجتماعي متطور أكثر مقارنة بالحيوانات الأخرى.
أما من ناحية علم النفس فقد بينت تجارب علم النفس التطوري أن لدى الإنسان نوع من الخير الفطري وخاصة وهو في سن الطفولة، وأحد تلك الدراسات تجربة عرائس الدمى لاختبار الأطفال بجامعة ييل. وهي تجربة نفسية لأطفال يبلغ أعمارهم 6 و7 أشهر فقط، تقوم التجربة بوضع ثلاث دمى وتحريكها لإظهار سلوكيات معينة أمام الأطفال، أحد تلك الدمى تحاول القيام بعمل معين إلا أن الدمية الأخرى تحاول منعها، بينما الثالثة تحاول مساعدة الدمية الأولى. وبعد انتهاء العرض للأطفال تم تخييرهم بين الدمى الثلاث، والنتيجة أن جميع الأطفال اختاروا الدمية المساعدة.
توجد دراسات أخرى على الأطفال تؤكد النتيجة السابقة، وهي أن الأطفال لديهم نوع من الخير الفطري. إذن بناءا على دراسات علم النفس فإن الإنسان وخاصة عندما يكون طفلا لديه نزوع للخير، ولكن ما الذي يحدث عندما يكبر؟ لماذا ينزع إلى الشر والجشع والنرجسية الشريرة؟ يعود تأثير ذلك للبيئة والمجتمع والتربية على النفس الإنسانية. مما لا شك فيه أن النظام الإجتماعي ويشمل معه النظام الإقتصادي أيضا، كلما زادت كفاءته التربوية والتعليمية والمنهجية انعكست آثاره الإيجابية على سلوك أبناءه وأفراده، وكلما فشل وتراجعت كفاءته كلما انعكست آثاره السلبية على سلوك أفراده.
تجارب علم النفس تثبت هذا الإدعاء، ومن أهم هذه التجارب تجربة ستانلي ميلغرام عام 1961 في توضيح أثر السلطة والمجتمع على سلوك الفرد وآراءه وتوجهاته وتصرفاته مما يشكلان ضغطا كبيرا وعاملا مهما في التحكم بسلوكه والتأثير على تصرفاته، وتجربة سجن ستانفورد التي قام بها فيليب زيمباردو التي تؤدي لنتائج مماثلة للتجربة السابقة، في تأثير السلطة والموقف الإجتماعي على سلوك الفرد وآراءه وتشكيلهما.
من المهم إذن معرفة العوامل الخارجية، لأنها تكون السبب الرئيس تقريبا في بعض السلوكيات والتصرفات الشاذة أو بشكل عام حتى. وأشار إلى هذا العالم بافلوف سكينر حين قال إن معرفة سبب تصرف الناس بالطريقة التي يتصرفون بها، تتطلب معرفة الظروف الخارجية التي جعلتهم يتصرفون بتلك الطريقة.
ونجد في التراث الإسلامي ما يقارب هذه الحقيقة العلمية خاصة عند الإمام أبو حامد الغزالي حين قال إن الطفل يأتي إلى الحياة ونفسه صحيفة بيضاء خالية من كل نقش وتصوير، وأن المربي أبا ومعلما هو الذي ينقش على هذه الصحيفة ما يشاء من خير وشر، والصبي قابل لكل ما ينقش عليه ومائل إلى كل ما يمال به إليه.
والخلاصة التي أنتهي إليها في النهاية تقارب ما ذهب إليه روسو، فأنا أرى أننا يجب أن نقبل الإنسان كما هو بحالته الطبيعية هذه وبنرجسيته الشريرة، والتي يقوم بها أي بحالته، بإشباع حاجياته الغريزية من جهة ومحاولته من جهة أخرى خلق نظام إجتماعي أفضل يلائم الجميع، مع عدم إهمال آثار المجتمع والبيئة والتربية على السلوك الفردي وتوجهاته، ودور كل منهم في تنشئة الفرد.