ما النقد؟ مقالة عن فضيلة فوكو – جودث بتلر – ترجمة: فاطمة الشملان
ماذا يعني إسداء نقد؟1 إنه شيء يمكنني أن أراهن بأن أغلبنا يفهمه بحس عام. لكن تصبح الأمور أكثر ارباكا إذا حاولنا التفريق بين نقد هذا أو ذاك الموقف أو النقد كممارسة عامة بشكل أكبر، أي ما يمكن وصفه دون الإشارة إلى عناصره المخصوصة. هل يمكننا حتى طرح سؤال كهذا عن الصفة العامة للنقد دون الإيماء إلى جوهر النقد؟ وإذا ما توصلنا لصورة عامة، توفر شيئا يقترب من فلسفة النقد، هل سنخسر حينها الفارق بعينه بين الفلسفة والنقد الذي يعمل كجزء من تعريف النقد ذاته؟ النقد دائما هو نقد بعض الممارسات المنشئة، الخطابية، المعرفية، المؤسساتية، وتخسر صفتها في اللحظة التي تجرد فيها من عمليتها وتُجعل واقفة لوحدها كممارسة عمومية. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فإنه لا يعني بأن العموميات مستحيلة أو بأننا غائصين بالفعل في المخصوصات. على العكس، ندوس هنا على منطقة من العمومية المقيدة، تلك التي تنقب الفلسفي، ولكن يجب إذا ما كانت ستبقى نقدية أن تظل على مسافة من ذلك الإنجاز بعينه.
إن المقالة التي أستعرضها هنا هي عن فوكو، لكن دعوني أبدأ باقتراح ما اعتبره موازيا بشكل مهم بين ما سعى ريموند وليامز وثيودور أدورنو بطرق عدة لتحقيقه تحت اسم “الانتقاد” وما سعى فوكو لفهمه عبر “النقد.” أؤكد بأن شيئا من مساهمة فوكو نفسه إلى وبالتحالف مع الفلسفة السياسية التقدمية سيتجلى في مسار المقارنة.
قلق ريموند وليامز بأن مفهوم الانتقاد قد حصر بإفراط في مفهوم “إيجاد الخطأ”2 واقترح بأن نجد تعبيرا لأنواع الاستجابات التي نملكها، خاصة للأعمال الثقافية، “والتي لا تتخذ طبع (أو حق أو واجب) الحكم.” وما نادى به هو نوع من الاستجابة المحددة، واحدة لا تُعمم بسرعة فائقة، كتب:” ما يحتاج أن يُفهم دائما،” “هو نوعية الاستجابة، والتي ليست حكما بل ممارسة.” أعتقد بأن هذا السطر الأخير يُعلِّم مسار تفكير فوكو على الموضوع، بما أن “النقد” تحديدا ممارسة لا توقف الحكم من قبله فحسب بل توفر ممارسة جديدة للقيم مبنية على ذاك الإيقاف بعينه.
إذن لوليامز، فإن ممارسة النقد ليست مختزلة في الوصول إلى أحكام (والتعبير عنهم). يصنع أدورنو وبشكل مهم ادعاء مشابها حين يكتب عن ” خطر…الحكم على ظاهرية فكرية في صيغة جمعية، جاهلة وتنفيذية واستيعابها في كوكبة سائدة من القوى التي وجب على الفكر كشفها.”3 إذن، من المهم الكشف عن “كوكبة القوى” تلك التي يعيقها التسرع في “الحكم” كفعل تمثيلي للنقد. فلأدورنو، تخدم عملية الحكم ذاتها فصل الناقد من العالم الاجتماعي في يده، وهي حركة تعارض النتائج لعمليته، مُشَكلة ” انسحابا من التطبيق”. يكتب أدورنو بأن الناقد” حين بكل هيمنة يدعي علما أعمق بالموضوع، أي فصل الفكرة من الموضوع عبر استقلال الحكم النقدي فإنه يهدد بالخضوع لصيغة شيء مشابه للموضوع حين يحتكم الانتقاد الثقافي إلى مجموعة من الأفكار المعروضة، كما هي وتصنيمها كفئات منعزلة.” ولكي يعمل النقد كجزء من التطبيق بالنسبة لأدورنو، فعليه أن يقبض على الطرق التي تتأسس منها الفئات كما هي، بمقومها المنغلق. تعمل الأحكام لدى كلا المفكرين كطرق لتضمين مخصوص تحت فئة منشأة مسبقا، بينما النقد يسأل عن التأسيس المنغلق لمجال الفئات نفسها. وما الذي يصبح عند فوكو مهما خصوصا في هذا الميدان، هو محاولة التفكير بمعضلة الحرية وبالطبع الأخلاق بشكل عام متجاوزة الحكم حيث يشكل التفكير النقدي هذا النوع من الجهد.
ألقى فوكو في 1978 محاضرة بعنوان “ما النقد؟”4 وهي قطعة مهدت لمقالته المعروفة جدا “ما التنوير؟” (1984). إنه لا يسأل ما النقد فحسب بل يسعى لفهم نوع السؤال الذي ينشئه النقد، عارضا بعض الطرق التجريبية لتطويق نشاطه. ولعل ما يبقى مهما عن المحاضرة، والمقالة الأكثر تطورا التي لحقته، هو صيغة السؤال التي وضع بها الأمر. حيث سؤال “ما النقد” بعينه هو نموذج للمؤسسة النقدية موضع التساؤل، ولذا لا يستعرض السؤال المشكلة فحسب-ما النقد الذي من المفترض أننا نقوم به أو حقا نتطلع لفعله؟ – ولكنه يُحدِث نمطا معينا من التساؤل سيثبت أنه مركزي لنشاط النقد نفسه.
بالطبع، سأقترح بأن ما سعى فوكو لفعله بهذا السؤال هو شيء مختلف تماما عما يمكن أن نأتي لتوقعه من النقد. لقد جعل هابرماس من عملية النقد أمرا معضلا للغاية حين اقترح بتجاوز النظرية النقدية التي نتطلبها إذا ما سعينا لملاذ بالأعراف في صنع أحكام تقييمية عن الظروف والأهداف الاجتماعية. إن منظور النقد بالنسبة له هو القدرة على استدعاء الأساسات التي هي موضع الحديث هنا، أي ليس في تجريد التراتبية الاجتماعية والسياسية فحسب بل وتحقيق منظورات حيث يمكن أخذ مسافة معينة عن العالم الطبيعي من خلالها. بيد أن ولا واحدة من تلك النشاطات تخبرنا بأي اتجاه علينا التحرك، أو تخبرنا ما إذا كانت النشاطات التي ننخرط فيها تحقق نوعا من الأهداف المبررة معياريا. ولذا في نظره يجب على النظرية النقدية أن تفسح المجال لنظرية معيارية أقوى، كالفعل التواصلي، من أجل توفير أساس للنظرية النقدية، سامحة لأحكام معيارية أن تُصنع،5 وألا يكون للسياسة هدف واضح وتطلع معياري فحسب، بل أن نكون قادرين على تقييم ممارسات جارية باعتبار قدراتها للوصول لتلك الأهداف. وفي صنع هذا النوع من الانتقاد للنقد، أصبح هابرماس بشكل مثير للفضول غير ناقد لمعنى المعياري بعينه الذي وظفه. حيث يفترض سؤال “ما الذي علينا فعله؟” بأن “نا الفاعلين” قد تشكلت ومعلومة، وبأن عملها ممكن، وأن الميدان الذي يمكنها العمل فيه محدود. ولكن إذا كانت هذه التشكيلات نفسها والمحدودات تملك عواقب معيارية، إذن سيكون من الضروري السعي خلف القيم التي تجهز المشهد للعمل، وسيكون هذا بعدا مهما لأي تساؤل نقدي في الأمور المعيارية.
وبالرغم من أن لعل لدى هابرماس إجابة على هذه المشكلة، فإن ليس هدفي اليوم تكرار تلك المجادلات أو الإجابة عليها، بل تسجيل المسافة بين مفهوم النقد الذي يُصنف كمعيار فقير بزاوية ما، وآخر أتمنى أن أعرضه هنا، ليس أكثر تعقيدا عما يفترضه الانتقاد المعتاد فحسب بل يمتلك، كما أحاج، التزامات معيارية قوية تظهر في صيغ سيكون من الصعب، إن لم يكن مستحيلا، قراءتها ضمن القواعد الحالية للمعيارية. أتمنى حقا أن أُظهر بأن فوكو لم يصنع مساهمة مهمة للنظرية المعيارية فحسب بل أن كلا من تجميله واعتباره للموضوع مرتبطان بالكامل مع كل من أخلاقياته وسياساته. وفي حين اعتبره البعض كجمالي أو كعدمي، أتمنى أن اقترح بأن الغزوة التي يعتركها في موضوع صنع الذات عبر الافتراض المسبق وفي التكون نفسه مهم لسياسة عدم الخضوع التي يقترحها. وبشكل متناقض فإن صنع الذات وعدم الخضوع يحصلان تزامنيا حين يُخاطر بنمط من الوجود غير مدعوم بما يسميه نظام الحقيقة.
يبدأ فوكو نقاشه بالتشديد على أن هناك قواعد لغوية لهم، أي “النقد”، مفرقا بين “المؤسسة الكانطية الرفيعة” المسماة نقد و” النشاطات الجدلية الصغيرة المسماة نقد” وبذا يحذرنا منذ البداية بان النقد لن يكون شيئا واحدا، ولن نكون قادرين على تعريفه بعيدا عن الأمور المتعددة التي يُعرّف من خلالها. “عبر وظيفته”، يكتب فوكو” يبدو [النقد] محكوما بالتبعثر، الاعتماد والمتغايرات الخالصة.” “إنه يوجد فقط عبر ارتباطه بشيء عدا نفسه.”
وبذا يسعى فوكو لتعريف النقد، ولكنه يجد بأن سلسة من التقاربات وحدها ممكنة. سيعتمد النقد على عناصره، ولكن عناصره في المقابل ستعرف معنى النقد بعينه. بالإضافة إلى أن المهمة الأولية للنقد لن تكون تقييم ما إذا عناصره- الظروف الاجتماعية، الممارسات، الصيغ المعرفية، القوة والخطاب- جيدة أم سيئة، مقدرة أو منحطة، ولكن لإجلاء هيكلة العملية ذاتها للتقييم نفسه. ما هي علاقة المعرفة بالقوة للدرجة التي تظهر بها يقيناتنا الأبستمولوجية داعمة لطريقة هيكلة للعالم تمنع الاحتمالات البديلة للتنظيم؟ يمكننا التفكير بالطبع بأننا نحتاج يقينا أبستمولوجيا من أجل الإقرار بالتأكيد بأن العالم وحري به أن يُنظم بطريقة معينة. إلى أي مدى مع هذا، تُدار هذه اليقينية من قبل صيغ معرفية تحديدا من أجل منع احتمالية التفكير بطريقة أخرى؟ الآن، يمكن للمرء أن يتساءل بحكمة، ما فائدة التفكير بطريقة أخرى، إذا لم نعلم قدما بأن التفكير بطريقة مختلفة سينتج عالما أفضل؟ إذا لم نمتلك هيكلة أخلاقية نقرر من خلالها وبمعرفة بأن احتمالات جديدة معينة أو طرق في التفكير ستقدم ذاك العالم حيث يمكننا الحكم على أفضليته بمعايير مؤكدة ومحققة مسبقا؟ بات هذا شيئا من الرد المعتاد على فوكو والعقلية الفوكوية. وهل نفترض بأن الصمت النسبي الذي رحب بهذا الطبع من إيجاد الخطأ لدى فوكو هو دلالة على أن نظريته لا تملك إجابات مطمئنة لتمنحها؟ أعتقد بأنه يمكننا الافتراض بأن الإجابات التي استعرضت لا تملك تطمينا كهدفها الرئيسي. هذا بالطبع دون القول بأن ما يمنع التطمين هو من حيث التعريف ليس الإجابة. إن الرد الوحيد بالتأكيد بالنسبة لي هو بالرجوع إلى معنى مبدئي أكثر لـ “النقد” من أجل رؤية ما الخطأ في السؤال المطروح، وبالتأكيد لطرح السؤال من جديد، ليمكن تخطيط توجه أكثر إنتاجية لمجال الأخلاقيات ضمن السياسة. يمكن للمرء أن يتساءل بالطبع عما إذا كان ما أعنيه “إنتاجي” سيُوجه بمعايير ومقاييس سأكون مستعدة لكشفها، أو تلك التي أقبض عليها جميعا في اللحظة التي اصنع فيها ادعاء كهذا. ولكني أطلب هنا صبركم حيث بدا أن النقد ممارسة تتطلب قدرا معينا من الصبر بالطريقة نفسها التي تتطلبها القراءة، بحسب نيتشه، بأن نتشبه قليلا بالأبقار أكثر من البشر ونتعلم فن الاجترار البطيء.
إن مساهمة فوكو لما يبدو كمأزق ضمن النظرية النقدية وما بعد النقدية لوقتنا، هي تحديدا في سؤالنا لإعادة التفكير في النقد كممارسة. حيث نطرح سؤال عن حدود أكثر طرقنا المؤكدة في المعرفة، والتي يشير لها وليامز كـ “طباع الذهن الغير نقدية” الخاصة بنا والتي يصفها أدورنو بالأيديولوجية (حيث “الفكرة الغير أيديولوجية هي تلك التي لا تسمح لنفسها لأن تُختزل “بمصطلحات عملية” وبدلا عنه تستبسل بشكل مطلق في مساعدة الأشياء نفسها لذاك التعبير الذي اقتطعته اللغة السائدة.” لا يتجه المرء للحدود من أجل حماس التجربة أو لأنها خطيرة وجذابة، أو لأنها تأتي بنا إلى قرب مقشعر مع الشر. يسأل المرء عن الحدود في طرائق المعرفة لأنه مر مسبقا أمام أزمة ضمن المجال الأبستمولوجي الذي يعيش فيه. تنتج الفئات التي يُنظم من خلالها المجتمع عدم اتساق أو عوالم كاملة من الغير منطوق. ومن هذا الظرف، أي الشق في نسيج شبكتنا الأبستمولوجية، تنبثق ممارسة النقد، مع الوعي بعدم وجود خطاب كفؤ هنا أو أن خطاباتنا السائدة قد أنتجت مأزقا. بالتأكيد قد ينتج الجدل نفسه، حيث يحارب فيه المنظور المعياري القوي مع النظرية النقدية، تلك الصيغة من المأزق الاستطرادي حيث ينبثق منها ضرورة وعجالة النقد تحديدا.
إن النقد لفوكو “وسيلة لمستقبل أو حقيقة لن تعرفها أو يصدف أن تحدث، إنه يشرف على حقل لا يريد ضبطه وغير قادر على تنسيقه.” إذن سيكون النقد ذلك المنظور على الطرق المحققة والمنظمة للمعرفة التي لم تُدمج على الفور في ذلك العمل التنظيمي. من المثير للاهتمام لدى فوكو أن هذا الانكشاف على حدود المجال الأبستمولوجي مربوط بممارسة الفضيلة، كما لو أن الفضيلة تضاد للتنسيق والنظام، كما لو أن الفضيلة نفسها توجد في المخاطرة في نظام قائم. وهو ليس خجلا من العلاقة هنا فيكتب ” هناك شيء في النقد مجانس للفضيلة.” ثم يقول شيئا يمكن أن يُعتبر حتى أكثر دهشة:” هذا السلوك النقدي فضيلة في العموم.”
يمنحنا فوكو إشارة إلى ما يعنيه بالفضيلة في مقدمة استخدام المتع: تاريخ الجنسانية، الجزء الثاني.6 ففي هذه المرحلة يوضح بأنه يسعى لتجاوز الاعتبار الفلسفي الأخلاقي الذي يصدر سلسلة من الأوامر. وكما يتقاطع النقد مع الفلسفة دون أن يتطابق معها تماما، كذلك فوكو في تلك المقدمة، يسعى لصنع من فكره الخاص مثالا على صيغة غير آمرة من التحقيق الأخلاقي. وبنفس الطريقة، سيتساءل عن الصيغ من التجارب الأخلاقية التي لا تُعَرّف بجمود من قبل القانون العدلي، أي حكم أو أمر حيث يُقال فيه للنفس أن تخضع ميكانيكيا أو بانتظام. يقول لنا في المقالة التي يكتبها، بأنها هي نفسها مثال على ممارسة كهذه، ” لاستكشاف ما قد يتغير، في فكرها ذاته، عبر ممارسة معرفة غريبة عليها.” تتعلق التجربة الأخلاقية بتحول ذاتي مدعوم بصيغة معرفية غريبة عما يملكها المرء. وتلك الصيغة من التجربة الأخلاقية ستكون مختلفة عن الخضوع لأمر. بالتأكيد، للمدى الذي يستجوب فيه التجربة الأخلاقية هنا أو في مكان آخر، يعتبر فوكو نفسه بأنه يصنع تحقيقا في التجارب الأخلاقية الغير منظمة بشكل أساسي أو بنيوي عبر المنع أو الحظر.
سعى في الجزء الأول من كتاب تاريخ الجنسانية 6 لإظهار بأنه لا يمكن فهم الممنوعات المفترضة من التحليل النفسي والاعتبار البنيوي للمحظورات الثقافية كثوابت تاريخية. بل بالاعتبار التأريخي، لا يمكن فهم التجربة الأخلاقية عبر اللجوء إلى سلسلة من الممنوعات الكاشفة ضمن زمن تاريخي معطى. فبالرغم من وجود نواميس لتدرس، فإنه يجب دراسة تلك النواميس بحسب علاقتها لأنماط وضعية تتوافق معها. ويقوم بادعاء بأن تشريع القانون يحقق نوعا من هيمنة ضمن القرن الثالث عشر ولكن إذا ما عاد المرء إلى الثقافات الإغريقية واليونانية الكلاسيكية فإنه يجد الممارسات أو” فنون الوجود” تتعلق بالعلاقة النامية للذات ومع نفسها. وبتقديم مفهوم “فنون الوجود”، فإن فوكو يعيد تقديم والتركيز على “الأفعال المقصودة والواعية”، تحديدا ” تلك الأفعال التي لا يضع من خلالها الرجال أحكاما للتصرف فحسب بل يسعون أيضا لتحويل أنفسهم لوجودهم الفردي، ولجعل حياتهم عملا فنيا.” وحيوات كهذه لا تتطابق ببساطة مع الأوامر التشريعية الأخلاقية أو الأعراف بطريقة تواءم فيها ذواتهم، التي تعتبر مصنوعة أو جاهزة مسبقا، في قالب أُعد مسبقا من قبل التشريع. على العكس، إن الذات تُفّصل نفسها عبر مفهوم العرف، تأتي لتستوطن وتندمج فيه، ولكن العرف ليس هذا الحس خارج المبدأ الذي تتشكل منه الذات. ما يعد قضية بالنسبة له ليست التصرفات أو الأفكار أو المجتمعات أو “الأيديولوجيات”، ولكن “الاستشكالية التي من خلالها يسمح المرء لنفسه أن يكون بالضرورة عبر الفكر، والممارسات على الأساس الذي تشكلت منه تلك الاستشكاليات.”
بالكاد يكون هذا الادعاء الأخير شفافا، ولكن ما يقترحه بأن أنواعا معينة من الممارسات التي صممت للتعامل مع أنواع معينة من المشكلات تنتج عبر الوقت ميدانا مستقرا من الكينونة كعاقبة لها، وهذا الميدان الكينوني في المقابل يقيد من فهمنا لما هو ممكن. وبالإشارة فقط إلى هذا الأفق الكينوني المتجلي، الذي أنشئ هو نفسه من سلسلة من الممارسات، سنكون قادرين على فهم أنواع من علاقات التشريعات الأخلاقية التي شُكلت وتلك التي ستتشكل فيما بعد. فعلى سبيل المثال، يعتبر فوكو بالتفصيل ممارسات عديدة من الصرامة، ويربط تلك بإنتاج نوع معين من الفرد الذكوري. إن ممارسات الصرامة لا تشهد على صحة منع واحد مستديم، بل تعمل في خدمة نحت نوع معين من الذات. أو إذا ما وضعت بشكل أدق، تصنع الذات نفسها نوع معين من الأفراد في دمجها أحكام السلوك التي تمثل مزية الصرامة. إن انتاج الذات هذا هو “إعداد وأسلوب لنشاط في ممارسة قوته وحريته.” لم تكن تلك ممارسة مضادة للمتعة الخالصة والبسيطة، ولكنها ممارسة متع في ذاتها، أي ممارسة المتعة في سياق التجربة الأخلاقية.
وبذا وفي القسم الثالث من مقدمته يوضح فوكو بأن عرضا تاريخيا زمنيا للنواميس الأخلاقية لن يكون وافيا، حيث لا يمكن لتاريخ كهذا إخبارنا كيف عيش بهذه النواميس وأكثر تحديدا ما هي صيغ التشكيل الفردي الذي تطلبته تلك الصيغ وسهلت له. ويصبح هنا أشبه ما يكون بظواهري. ولكن هناك بالإضافة للجوء إلى الوسائل التجريبية التي قُبض من خلالها على الفئات الأخلاقية، حركة نقدية كذلك، حيث لن تكون العلاقة الشخصانية بتلك الأعراف متكهنة أو آلية. ستكون العلاقة “نقدية” بمعنى أنها لن تتبع فئة معينة، بل تشكل عوضا عنه علاقة استجوابية مع مجال التصنيف نفسه، مشيرة بشكل ضمني على الأقل لحدود الأفق الأبستمولوجي الذي يُخلق من خلاله الممارسات. ليست النقطة هي الإشارة إلى سياق أبستمولوجي معطى مسبقا، ولكن تأسيس النقد كممارسة في ذاتها تكشف حدود ذلك الأفق الأبستمولوجي نفسه، جاعلا من محيط الأفق يظهر كما لو أنه ولأول مرة، يمكننا القول، في علاقة مع حدوده. بالإضافة إلى أنه تُظهر الممارسة النقدية هنا بأنها تستلزم التحول الذاتي بارتباطها مع حكم السلوك. إذن كيف يؤدي التحول الذاتي إلى إجلاء هذا الحد؟ كيف يُفهم التحول الذاتي كـ “ممارسة للحرية” وكيف تفهم هذه الممارسة كجزء من معجم فوكو للفضيلة؟
فلنبدأ أولا بفهم التحول الذاتي المطروح هنا، ثم نتأمل كيف يرتبط بمشكلة تسمى “النقد” التي تشكل بؤرة تداولاتنا هنا. بالطبع أن يدير المرء نفسه تحت ناموس من السلوك أمر، وصياغة نفسه كفرد أخلاقي بالعلاقة مع ناموس من السلوك هو أمر آخر (وسيكون أمر ثالث صياغة المرء لنفسه كمُخاطر بترتيب الناموس نفسه). توفر أحكام العفة مثالا مهما لفوكو. هناك فرق على سبيل المثال بين عدم الفعل تلبية لرغبات يمكنها انتهاك مبدأ يلتزم به المرء أخلاقيا وإنشاء ممارسة للرغبة، إذا جاز التعبير، معلومة بمشروع أخلاقي معين أو رسالة. إن النموذج الذي يتطلب فيه الخضوع لحكم قانوني سيتعلق بألا يفعلها المرء بطرق معينة، واضعا منعا فعّالا ضد الفعل بمقتضى رغبات معينة. لكن يأتي النموذج الذي يسعى فوكو لفهمه وبالفعل لدمجه وضربه مثالا ليأخذ الأمر الأخلاقي للمشاركة في تشكيل نوع من الفعل. يبدو أن نقطة فوكو هنا بأن الزهد والحرمان لا يفرضان ناموسا أخلاقيا مثبطا أو غير فعال، ولكن يشكلان في المقابل ناموسا أخلاقيا من السلوك وطريقة لتصميم كل من الفعل والمتعة.
أزعم بأن هذا التضاد الذي يطرحه فوكو بين الأخلاق المبنية على الأمر والممارسة الأخلاقية التي ترتبط مركزيا بتشكيل الذات، يسلط ضوءا مهما على الفارق بين الامتثال والفضيلة التي يعرضها في مقالته “ما النقد؟” ستعرف متضادات فوكو قدما عبر فهم “الفضيلة” مع الامتثال، مظهرا كيف تُنشئ هذه الصيغة من الفضيلة عبر اختلافها عن الامتثال الغير نقدي للسلطة.
تشكل مقاومة السلطة بالطبع دمغة التنوير لدى فوكو. وتمنحنا قراءة في التنوير التي لا تنشئ فقط استمرارية فوكو مع أهدافها فحسب، بل قراءة في معضلاته الذاتية في استرجاعه تاريخ التنوير نفسه. إن الاعتبار الذي يوفره لا يمكن لمفكر “تنويري” أن يقبله، لكن تلك المقاومة لن تفسخ التوصيفات الموجودة، إن ما يسعى إليه فوكو في توصيف التنوير هو بالضبط ما يبقى “غير مفكر فيه” ضمن مصطلحاته نفسها: أي أن ما يملكه هو تاريخ نقدي. ففي منظوره، يبدأ النقد بالتشكيك في المطالبة بالامتثال المطلق وإخضاع كل التزام حكومي مفروض على الرعايا لتقييم عقلاني وتأملي. وبالرغم من أن فوكو لن يتبع هذا المنعطف من المنطق، فإنه وبالرغم من هذا سيسأل عن المقياس الذي يحد أنواع الأسباب التي تأتي لتلقي بحملها على سؤال الامتثال. سيكون مهتما على وجه الخصوص بمعضلة كيف يشكل الميدان المحدود الفرد وكيف في المقابل يشكل الفرد ويعيد تشكيل تلك الأسباب. سترتبط تلك القابلية لتشكيل أسباب بشكل مهم مع علاقة التحول الذاتي المذكورة آنفا. يتطلب منك كي تكون ناقدا لسلطة تتموضع كمطلق ممارسة نقدية تحمل التحول الذاتي في كنهها.
ولكن هل ننتقل من فهم الأسباب التي نملكها للموافقة على مطلب تشكيل تلك الأسباب لأنفسنا، لتحويل أنفسنا في درب انتاج تلك الأسباب (وأخيرا، المخاطرة بمجال السبب ذاته)؟ أليست تلك معضلات مختلفة النوع، أم أن الواحدة منها تؤدي للثانية حتميا؟ هل الاستقلالية المُحققة في تشكيل الأسباب التي تخدم كأساس للموافقة على أو رفض قانون مُعطى هي نفسها تحول الذات الذي يحصل حين يصبح الحكم مندمجا في الفعل ذاته للفرد؟ كما سنرى، يُعتبر كل من تحول الذات عبر المنظور الأخلاقي وممارسة النقد صيغ من “الفن،” تصميمات وإعادة، مقترحة بأن لا مجال لقبول أو رفض حكم دون ذات مصممة كردة فعل لمتطلب أخلاقي واقع عليها.
وفي سياق حيث الامتثال مطلوب، يحدد فوكو الرغبة التي تُخطر السؤال “كيف لا يُحكم المرء؟” تشكل هذه الرغبة، والدهشة التي تعقبها، الدافع المركزي للنقد. إلا أنه من غير الواضح بالطبع كيف ترتبط الرغبة التي لا تحُكم بالفضيلة. إلا أنه يجلي مع هذا، بأنه لا يطرح احتمالية أناركية راديكالية، والسؤال ليس عن كيف تصبح غير محكوم راديكاليا. إنه سؤال محدد ينبثق فيما يتعلق بصيغة محددة من الحكومة: “كيف لا تُحكم كهذا، وبهذا، وباسم تلك المبادئ، وبكذا وكذا هدف في الذهن وبوسائل إجراءات كتلك، ليس كهذا، وليس من أجل هذا، وليس من قبلهم.”
تصبح هذه العلامة الفارقة لـ “السلوك النقدي” ومزيته المخصوصة. حيث السؤال نفسه، بالنسبة لفوكو، يولي سلوكا أخلاقيا وسياسيا، ” فن ألا يُحكم المرء، أو أفضل من هذا، فن ألا يُحكم هكذا أو مقابل تلك القيمة.” مهما تكن الفضيلة التي يرسمها فوكو هنا لنا، سيتعين عليها أن تكون متعلقة بتلك التي تعترض على فرض القوة، أو عواقبها، وعلى الطريقة التي تُقدم، وعلى أولئك الذين يقدمونها. قد ينجذب المرء للتفكير بأن فوكو يصف المقاومة ببساطة، لكن يبدو هنا أن “الفضيلة” قد استعيضت عن ذلك المصطلح، أو باتت الوسيلة التي أعيد به وصفها. علينا أن تساءل لماذا. بل أكثر، لقد وُصفت هذه الفضيلة كذلك على أنها “فن”، فن ألا يُحكم المرء “بكثرة”، إذن ما العلاقة بين الجماليات والأخلاقيات المعمول بها هنا؟
يجد فوكو أصول النقد في علاقتها مع مقاومة السلطة الكنائسية. في علاقتها مع العقيدة الكنسية، “عدم الرغبة بأن يُحكم كان حتما طريقة للرفض، تحدي، والحد من (قلها كما يحلو لك) الحكم الكنائسي. كان يعني الرجوع إلى النصوص المقدسة…كان يعني التساؤل عن أي نوع من الحقيقة أخبرتها تلك النصوص.” كان جلي بأن هذا الاعتراض قد شُنّ من أجل بديل، أو على الحد الأدنى، أرض منبثقة للحقيقة وللعدالة. أدى هذا بفوكو لصياغة تعريف ثاني للـ “النقد”: “عدم الرغبة بأن يُحكم…عدم الرغبة بقبول تلك القوانين لأنها ظالمة ولأنها…تخفي عدم شرعية جوهرية.”
إن النقد هو ما يفضح عدم الشرعية تلك، وذلك ليس لأن النقد يملك مصدرا لنظام سياسي وأخلاقي أكثر جوهرية. يكتب فوكو بأن مشروع النقد ” يتصادم مع الحكومة والامتثال الذي تشترطه” وأن ما “يُقصد بالنقد” في هذا السياق هو “ترويج الحقوق الموحدة والغير قابلة للنقض والتي على كل حكومة أيا كانت، سواء ملكية أو قضائية أو تعليمية أو أسر أبوية أن تخضع لها.” إلا أن ممارسة النقد مع هذا، لا تكشف عن تلك الحقوق الموحدة، كما يدعى منظرو التنوير، ولكنها “تروج لها.” غير أنها لا تروج لهم كحقوق ليست بإيجابية. إن “الترويج” هو فعل يحد من قوة القانون، فعل يعاكس وينافس أعمال القوة، أي القوة في لحظة تجددها. ذلك موقف محدود بعينه، ذلك الذي يأخذ الصيغة وما تؤكده كسؤال، في توكيدها ذاته، “حق” السؤال. منذ القرن السادس عشر وما بعده صار سؤال “كيف لا يُحكم المرء” محددا إلى “ما محدود حق الحكم؟” “عدم الرغبة بأن ُيحكم” هو بالطبع عدم قبول كحقيقة… ما تقوله لهم سلطة بأنه كذلك، أو على الأقل عدم قبولها لأن سلطة أخبرتكم بأنها حقيقة، لكن القبول بها فقط إذا ما اعتبر المرء الأسباب لفعل ذلك حقة. يوجد بالطبع كم لا بأس به من الضبابية في هذا الوضع، فما الذي سيشكل أرضية الصلاحية للقبول بالسلطة؟ هل تُستقى الصلاحية من الموافقة على قبول السلطة؟ أو أنها حالة تستند فقط على أساس صلاحية سابقة ومكتشفة يمنح المرء موافقته عبرها؟ وهل تلك الأسباب السابقة، في صلاحيتها، تجعل من الموافقة حقة؟ إذا كان البديل الأول صحيحا، فالموافقة إذن فيصل يُحكم من خلالها على الصلاحية، ويبدو أن موقف فوكو تقلص إلى صيغة من الطوعية. ولكن لعل ما يقدمه لنا عبر سبيل “النقد” هو فعل، بل حتى ممارسة للحرية، التي لا يمكنها التقلص إلى الطوعية بأي طريقة سهلة. حيث أن الممارسة التي وضعت من خلالها حدود السلطة المطلقة هي واحدة معتمدة جوهريا على آثار الأفق المعرفي الذي تعمل عبره. لا تستقي الممارسة النقدية معينها من بئر الحرية الفطرية للروح. بل تُعلم في المقابل في بوتقة التبادل المخصوص بين سلسلة من الأحكام أو المبادئ (الموجودة مسبقا) وتصميم الأفعال (التي تمتد وتعيد تشكيل تلك الأحكام المسبقة والمبادئ). يأتي تصميم الذات هذا بالنسبة إلى الأحكام ليُعد كـ “ممارسة.”
ففي منظور فوكو، متبعا كانط بحس واهن، فإن فعل الموافقة هو حركة انعكاسية من خلاله تُعزا أو تُسحب الصلاحية من السلطة. ولكن هذه الانعكاسية لا تدوم للفرد. هي لفوكو فعل يحوي بعض المخاطرة، حيث النقطة ليست الاعتراض على هذا أو ذاك المطلب الحكومي فحسب بل السؤال عن النظام الذي بات من خلاله مطلب كهذا شرعيا ومحتملا. وإذا ما اعترض المرء على الأوامر الأبستمولوجية التي أنشأت أحكام الصلاحية الحكومية، إذن فقول “لا” للمطلب سيحتاج مغادرة الأرضيات المنشئة لصلاحيته، مُعلِّمة حد تلك الصلاحية، وهو شيء أكثر مخاطرة بكثير من إيجاد بأن مطلبا معينا غير صالح. ويمكننا القول من هذا الاختلاف، بأن المرء يبدأ بولوج علاقة نقدية مع أوامر كهذه والمبادئ الأخلاقية التي يبعثونها. إن المعضلة في تلك الأرضيات التي يسميها فوكو بـ “غير شرعية” ليست في أنها جزئية أو مناقضة للذات أو تؤدي لمواقف منافقة أخلاقيا. إن المعضلة تحديدا هي بأنها تسعى لمنع العلاقة النقدية لتوسع قوتها لتنظيم ميدان الحكم الأخلاقي والسياسي برمته. إنها تقود جوقة الميدان وتفرغه بالتأكيد من ذاته. كيف يستدعي المرء سؤال القبضة التفريغية التي تملكها أحكام نظام كهذا على اليقينية دون المخاطرة باللايقينية، دون استيطان موقع التردد الذي يعرض المرء لتهمة اللاأخلاقية، الشر، جمالية المذهب. السلوك النقدي ليس أخلاقي وفقا للأحكام التي تحد ذات الشيء التي تسعى العلاقة النقدية لدمجه. لكن كيف يمكن للنقد دون ذلك أن يؤدي عمله دون المخاطرة بشجب أولئك الذين يكيفون ويستخلصون التجانسية من المصطلحات الأخلاقية ذاتها الموضوعة محل التساؤل في النقد نفسه؟
يسعى تفريق فوكو بين الحكومة والحاكمية أن العدة المشار إليها بالسابق تلج إلى ممارسات أولئك المحكومين، طرائقهم ذاتها للمعرفة، ووجودهم ذاته. أن ـُحكم لا يعني امتلاك صيغة مفروضة على وجود المرء فحسب، بل بمنحه شروطا حيث سيكون الوجود عبرها ممكنا أو غير ممكن. سينبثق الفرد عبر علاقته بنظام منشئ عن الحقيقة، ولكن يمكنه أن يتخذ وجهة نظر عن النظام المنشئ الذي يوقف بأثر رجعي أرضيته الأنطولوجية.
إذا كانت الحاكمية هي…تلك الحركة التي يُخضَع الأفراد عبرها لواقع من الممارسة الاجتماعية وعبر آليات القوة التي تتقيد بالحقيقة، حسنا إذن! سأقول بأن النقد هو حركة حيث يمنح الفرد نفسه من خلالها الحق
(le sujet se donne le droit) لمسائلة حقيقة تأثير قوتها ومسائلة قوة خطاباتها عن الحقيقة.
لاحظوا بأنه يقال هنا أن الفرد “يمنح نفسه ذاك الحق،” نمط من التنصيب والتخويل الذاتي الذي يبدو مُقدما انعكاسية الادعاء. هل تلك حركة متولدة ذاتيا تلقي بالفرد على ومقابل شواطئ سلطة مضادة؟ وما الفارق الذي سيصنعه، إذا كان هناك فارق، انبثاق ذاك التنصيب والتخويل الذاتي كـ “فن”؟ يكتب فوكو أن “النقد” “سيكون فن عدم الانصياع الطوعي، ذو مراس صعب منعكس [ [l’indocilité réfléchie.” “إذا كان فنا” في حسه، فلن يكون النقد إذن فعلا أوحدا، ولن ينتمي حصريا إلى ميدان شخصاني، حيث سيكون علاقة تصميمية للمطلب المفروض عليه. وسيكون التصميم نقديا للمدى الذي فيه، كتصميم، لا يمكن تحديده بالكامل مقدما، إنه يحوي احتمالية عبر الزمن تُعلِّم الحدود للقدرة النظامية في الميدان المطروح. إذن فتصميمية هذه “السوف” ستنتج فردا غير معروف بسهولة تحت اسم الحقيقة المنشأة. يعلن فوكو: ” سيضمن النقد بشكل رئيسي عدم خضوع الفرد في سياق [le jeu] ما نطلق عليه كلمة سياسة الحقيقة.
توائم سياسة الحقيقة علاقات القوة التي تحدد مقدما ما سيعتبر ولن يعتبر كحقيقة تنظم العالم في طرق معينة منتظمة وقابلة للتنظيم، والتي نأتي لقبولها كميدان معطى للمعرفة. يمكننا فهم بروز تلك النقطة حين نسأل: ما الذي يُعد شخصا؟ ما الذي يُعد جندرا متسقا؟ ما الذي يؤهل لمواطن؟ عالم مَن المُشرّع كحقيقي؟ نسأل بشكل فرداني: كيف أكون في عالم كهذا حيث معاني وحدود الفرد معدة مسبقة لي؟ بأي المعايير أُكبح ككائن من السؤال عما يمكن أن أكون؟ ماذا يحصل حين أبدأ بأن أكون حيث لا يوجد لذلك محل ضمن النظام المُعطى للحقيقة؟ أليس هذا هو تحديدا ما يُقصد بـ ” عدم خضوع الفرد في مسرحية…سياسة الحقيقة”؟
ما على المحك هنا هو العلاقة بين حدود الأنطولوجيا والأبستمولوجيا، الرابط بين حدود ما قد أصبحت وجود ما قد أخاطر بمعرفته. يطرح فوكو سؤالا مشتقا من حس النقد لدى كانط وهو سؤال عن النقد نفسه: “هل تعرف لأي حد يمكنك أن تعرف؟” “حريتنا على المحك.” وبذا، تنبثق الحرية على حدود ما يمكننا معرفته، في اللحظة ذاتها التي يحصل فيها عدم خضوع الفرد لسياسة الحقيقة، أي اللحظة حين تتخذ ممارسة مسائلة معينة الصيغة التالية:” ماذا أنا إذن، أنا الذي أنتمي إلى هذه الإنسانية، ربما لهذه الجزئية منها، في هذه النقطة من الزمن، في هذه الإنسانية الفورية المُعرّضة لقوة الحقيقة على العموم والحقائق على الخصوص؟” طريقة أخرى لوضع هذا هو في التالي:” ماذا، باعتبار النظام المعاصر للوجود، يمكن أن أكون؟” إذا الحرية على المحك بطرح هذا السؤال، فلعل المخاطرة بالحرية تتدخل بشكل ما مع ما يسميها فوكو فضيلة، مع مخاطرة معينة موضوعة في اللعب بالفكر وبالطبع اللغة حيث يأتي بالحدود التي يقف عندها النظام المعاصر للوجود.
ولكن كيف نفهم هذا النظام المعاصر للوجود الذي أخاطر في أنا نفسي؟ يختار فوكو هنا أن يصنف هذا النظام الوجودي المشروط المتكيف تاريخيا بطريقة تربطه مع النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، معرفا “العقلنة” بأنها تأثير الحاكمية على الأنطولوجيا. صافا نفسه مع التقليد النقدي اليساري ما بعد كانط حيث يكتب،
من اليسار الهيغلي إلى مدرسة فرانكفورت، كان هناك نقدا كاملا للإيجابية، العقلنة، للتقني والتقننة، نقد بأكمله للعلاقات بين المشروع الجوهري للعلم والتقنيات التي كان هدفها إظهار الصلات بين افتراضات العلم الساذجة على صعيد وصيغ الهيمنة المميزة للمجتمع المعاصر على الصعيد الآخر.
ففي منظوره، تتخذ العقلنة صيغة جديدة حين تأتي لخدمة قوة حيوية وما يستمر صعبا لأغلب الفاعلين الاجتماعيين والنقاد ضمن هذا الوضع هو تبيان العلاقة بين “العقلنة والقوة.” حيث ما يبدو مجرد نظام أبستمولوجي، طريقة لتنظيم العالم، لا يقر بسهولة بالإكراه الذي يحصل من خلاله ذاك التنظيم. كما أنه لا يظهر في أغلبه الطريقة التي تؤدي بها آثار التشديد والشمولية والعقلنة إلى تكثيف القوة. يسأل فوكو، ” كيف من الممكن أن أدت العقلنة إلى هيجان القوة؟” من الجلي بأن قدرة العقلنة الوصول إلى روافد الحياة لا تصنف أنماطا من الممارسات العلمية فحسب، “بل العلاقات الاجتماعية أيضا، منظمات الدولة، الممارسات الاقتصادية ولعل حتى السلوكيات الفردية؟” تصل القوة لـ “هيجانها” وحدودها أثناء ما تقبض وتتخلل الفرد الذي تفردنه. تضع القوة الحدود لما يمكن للفرد أن “يكون،” والذي بعده لا يبقى “هو،” أو تقطن في ميدان من الأنطولوجيا الموقوفة. لكن تسعى القوة لإرغام الفرد عبر القوة القهرية، وتكمن مقاومة القهر في تصميم الذات والحدود الكائن المُنشئ.
أحد أول مهام النقد هي تبيان العلاقة “بين آليات القهر وعناصر المعرفة.” يبدو أننا نواجه هنا مجددا مع حدود ما هو معروف، حدود تمارس قوة معينة دون أن تُثبت بأي ضرورية، حدود يمكنها أن تُخطى أو يُحقق معها فقط عبر المخاطرة بأمان معين ضمن أنطولوجيا متاحة:
لا يمكن لعنصر معرفة أن يوجد إذا…لا يتطابق مع سلسلة من الأحكام والقيود، على سبيل المثال، التي يمتاز بها خطاب مُعطى في زمن مُعطى في كفة، وإذا في الكفة الأخرى، لا يحتوي على تأثيرات القهر أو ببساطة الدوافع المخصوصة لما هو مصدّق علميا أو عقلاني ببساطة أو مقبول ببساطة بشكل علم، إلخ.
ثم يستطرد لإظهار أن المعرفة والقوة ليستا منفصلتين في النهاية، بل تعملان سوية لتحقيق سلسلة من المعايير الحاذقة والصريحة للتفكير بالعالم:” إن الأمر بذلك ليس وصف ماهية المعرفة والقوة وكيف يمكن للأول أن يقمع الآخر أو كيف للآخر أن يعتدي على الأول، بل يجب وصف وشائج المعرفة- السلطة حتى نتمكن من القبض على ما يُشكل المقبولية لنظام ما.”
ولذا للناقد مهمتان مزدوجتان، أن يُظهر كيف تعمل المعرفة والقوة لتشكيل طريقة منتظمة بشكل ما لتنظيم العالم بما له من ” شروط المقبولية لنظام ما،” وأيضا ” تتبع النقاط القاطعة التي تشير إلى انبثاقها.” “ولذا ليس من الحاسم فقط عزل والتعرف على وشائج بين المعرفة والقوة المخصوصة التي تولد الميدان للأشياء المفهومة، ولكن لتتبع أيضا السبيل الذي يقابل من خلاله ذاك الميدان نقاطه القاطعة، أي لحظات انقطاعاته، المواقع التي يفشل فيها في تشكيل المفهومية التي يستند عليها. ما يعنيه هذا، هو أن المرء ينظر لكل من الظروف التي من خلالها يتشكل الميدان الموضوعي، ولكن أيضا لحدود تلك الظروف، أي اللحظات التي تشير إلى احتماليتها وتحولها. أي بعبارات فوكو، ” إذا ما تحدثنا من منظور تخطيطي، فإننا نملك تحركا مستديم، وهشاشة جوهرية أو التداخل المركب بين ما يكرر نفس العملية وما يحولها.”
وبالطبع فإن الطريقة الأخرى للحديث عن هذه الديناميكية ضمن النقد هو بالقول إن العقلنة تصطدم بحدودها في عدم الخضوع، حيث إذا انبثق عدم خضوع المرء في اللحظة التي تنكشف حدوده من قبل المعرفة المُشكلة عبر العقلنة، فإن عدم الخضوع إذن يدمغ تحديدا هشاشة وتحول أبستمولوجيات القوة.
يبدأ النقد بافتراض الحاكمية ومن ثَمّ إخفاقها في اشتمال الفرد الذي تسعى لمعرفته واخضاعه. ولكن الوسائل التي عُبّر بها عن تلك العلاقة ووصفت بها، بطريقة مركبة، على أنها خيالية؟ ولم تكون خيالية؟ وبأي معني هي خيالية؟ يشير فوكو إلى ” ممارسة تاريخية – فلسفية كان على المرء [من خلالها] أن يصنع تاريخا لنفسه، يختلق التاريخ، كما لو كان عبر الخيالية [de faire comme par fiction] من حيث كيف ستنتشر عبر سؤال العلاقات بين هياكل العقلانية التي تُعبّر عن خطاب حقيقي وآليات الإخضاع المربوطة بها.” إذن هناك بعدا منهجيا تشترك ذاتها مع الخيالية، والتي ترسم خطوطا خيالية بين العقلنة والإخضاع، بين وشائج المعرفة- القوة وهشاشتها وحدها. لم يقل لنا ما سيكون نوع هذه الخيالية، لكن من الجلي أن فوكو يستقي من نيتشه وتحديدا نوع الخيالية الذي أخبر عنه في أصل الأخلاق.
لعلكم تتذكرون بأنه في المجمل يبدو أن أصل الأخلاق لنيتشه هو محاولة العثور عل أصل القيم، هو يسعى في الحقيقة ليعرف كيف أُسس مغزى الأصل. والوسائل التي يسعى عبرها لشرح الأصل هي خيالية. يُخبر عن خرافة النبل، وأخرى عن عقد اجتماعي، وأخرى عن تمرد عبد في الأخلاقية، وأخرى عن علاقات الدائن والمدين. ولا يمكن لأي من تلك الخرافات أن تُحدد في مكان أو زمان، وأي محاولة للعثور على تتمة تاريخية لأصول نيتشه ستفشل حتميا. وبالتأكيد في اعتبار يجد أصل القيم، أصل الأصل، نقرأ قصصا خيالية عن الطريقة التي نشأت منها القيم. يقول نبيل ما بأن الحالة هي كذا فتصبح كذلك: فعل الخطاب يدشن القيمة، فتصير شيئا ما كالمناسبة الغير منتبذة والسرمدية لنشأة القيم. حقا، يعكس صنع الخيالية لنيتشه ذات فعل التدشين الذي يُعزا إلى أولئك الذين يصنعون القيم. إذن هو لا يصف تلك العملية فحسب، بل يصبح ذلك التوصيف أمثلة على إنتاج القيم، ممثلة ذات العملية التي تسردها.
كيف يمكن لهذا الاستخدام الخاص للخيالية أن يرتبط لاعتبار فوكو للنقد؟ اعتبروا أن فوكو يحاول فهم احتمالية عدم الخضوع ضمن العقلنة دون افتراض أن هناك عنصر للمقاومة الذي يستوطن الفرد أو محفوظ في نمط جوهري نوعا ما. من أين تأتي المقاومة؟ هل يمكن أن يقال بأنها فيض حرية بشرية من نوع ما قُيّدت بأغلال قوى العقلنة؟ إذا كان يتكلم، كما يفعل، عن إرادة لا تُحكم، كيف يمكننا فهم وضع تلك الإرادة.
يعلق في رد لتساؤل ضمن هذه السطور،
لا أعتقد بأن الإرادة التي لا تُحكم مطلقا هي شيء يمكن للمرء اعتبارها تطلعا أصيلا
(je ne pense pas en effet que la volonté de n’être pas gouverné du tout soit quelque chose que l’on puisse considérer comme une aspiration originaire).
أعتقد في الحقيقة بأن الإرادة التي لا تُحكم هي دائما الإرادة التي لا تُحكم على هذا النحو، بالطريقة تلك، من قبل هؤلاء الشخوص، مقابل هذا الثمن.
ويمضي كي يحذر ضد مطلقية هذه الإرادة التي دائما ما تنجذب الفلسفة لفعلها. فيسعى لتجنب ما يسميه ” الذروة الفلسفية والنظرية لشيء سيكون هذه الإرادة التي لن تُحكم نسبيا.” حيث يوضح بأنه يتورط في مشكلة الأصل في اعتباره لتلك الإرادة، ويدنو كثيرا من التخلي عن هذا الحقل، ولكن يتجلى تردد نيتشاوي معين حين يكتب،
“لم أكن أشير إلى شيء سيكون أناركيا جوهريا، أن يكون كالحرية الأصلية ((qui serait comme la liberté originaire، مقاومة مطلقة وخالصة ضد أي حاكمية، إني لم أقله، ولكن ذلك لا يعني بأني أُقصيه بالمطلق
(Je ne l’ai pas dit, mais cela ne veut pas dire que je l’exclus absolument)
أعتقد أن محاضرتي تقف عند هذه النقطة، لأنها باتت طويلة جدا حتى الآن، ولأني أيضا أتساءل
(mais aussi parce que je me demande) … إذا كان المرء يريد تنقيب بعد النقد هذا، الذي يبدو لي بالغ الأهمية لأنه جزء وليس جزء من الفلسفة… إنه مدعوم بشيء قريب (qui serait ou) للممارسة التاريخية للثورة، عدم القبول بحكومة حقيقية في كفة، أو الرفض الفردي للحاكمية في الكفة الأخرى.”
مهما يكن ذلك الشيء الذي يحدده المرء حين يقاوم الحاكمية، فسيكون مشابها “للحرية الأصلية” و “وشيئا قريبا من الممارسة التاريخية للثورة.” مشابها لهم، ولكن بالتأكيد ليس نفسهم. أما عن ذكر فوكو للـ “حرية الأصلية،” فهو يعرضها ويسحبها في الوقت نفسه، حيث يعلق بـ “لم أقله” بعد أن كاد، وبعد أن أظهر لنا كيف كاد، بعد أن مارس ذلك الدنو الشديد الذي يُفضي لنا ما يمكن أن يُفهم كشيء من التشويق. ما الخطاب الذي يوشك على إغوائه هنا، مخضعا إياه لمصطلحاته؟ كيف يشتق من ذات المصطلحات التي يرفضها؟ أي شكل من الفن هذا يودي بنا لتقارب نقدي مُطبق المسافة؟ وهل تلك المسافة ذاتها التي تغذي ممارسة التساؤل، التحقيق؟ أي حدود للمعرفة يتجرأ لأن يتطرق إليها حين يجهر لنا بتساؤله؟ يتعلق المشهد الافتتاحي للنقد بـ ” فن عدم الانصياع الطوعي،” والطوعي، أو بالطبع “الحرية الأصلية” معطاة هنا، ولكن في صيغة حدس، في صيغة فن يوقف الأنطولوجيا ويأتي بنا إلى إيقاف عدم التصديق.
يجد فوكو طريقة لقول “الحرية الأصلية” وأعتقد بأن نطق تلك الكلمات تجلب له سعادة بالغة، سعادة ورهبة. يقولها لكن عبر أداء الكلمات، مخليا نفسه من ارتباط أنطولوجي، ولكن مُسرّحا الكلمات ذاتها لاستخدام معين. هل يشير إلى حرية أصلية هنا؟ هل وجد بئر الحرية الأصلية ونهل منه؟ أو أنه طرحها، ذكرها، قالها دون أن ينطق بها تماما؟ هل استحضرها حتى يمكننا أن نعيد معايشة أصدائها، وأن نعرف قوتها؟ إن أداء الكلمة ليس توكيدها، ولكن يمكن لنا القول بأن توكيدها مؤدى، ممثل بشكل فني، معرض لإيقاف أنطولوجي، تحديدا لكي تُنطق. وأن هذا الفعل الخطابي هو ما يُخلي العبارة “الحرية الأصلية” لبرهة من الزمن من السياسة الأبستمولوجية الذي تعيش ضمنها وتقوم بعدم خضوع معين للفرد ضمن سياسة الحقيقة. فحين يتحدث المرء بتلك الطريقة، فإنه مقبوض ومحرر بالكلمات التي يقولها مع ذلك. بالطبع، إن السياسة ليست مسألة حديث فقط، ولا أقصد بعث أرسطو في صيغة فوكو (بالرغم من أني اعترف بأن حركة كهذه تأسرني وأذكرها هنا كي أعرضها كاحتمالية دون أن أُلزم نفسي بها في التو.) تتمثل حرية معينة في هذه التلميحة اللفظية نحو نهاية المحاضرة، ليس بالرجوع إلى المصطلح دون ركيزة جوهرية، ولكن بالأداء الفني لإطلاقها من قيودها الاستطرادية المعتادة، خيلاء أن المرء ينطقها فقط إذا عرف مقدما ما هي ركيزتها.
سأزعم أن تلميحة فوكو شجاعة على نحو مستغرب، لأنها تدرك بأنها لا يمكنها ترسيخ ادعاء الحرية الأصلية. ويمنح عدم العلم هذا الاستخدام المخصوص الذي تملكه ضمن خطابه. إنه يواجها بشجاعة بأي حال، وكذلك يصبح ذكره، إصراره رمزا لنوع معين من أخذ المخاطرة الذي يحصل في حدود المجال الأبستمولوجي. وتصبح هذه ممارسة لفضيلة، ولعل ليس كما يصرح نقاده، علامة على القنوط الأخلاقي، وتحديدا للدرجة التي تطرح ممارسة من هذا النوع من الحديث قيمة لا تعرف كيف ترسخ أو تثبت نفسها، إلا أنها تطرحها على أية حال، وبذلك تظهر بأن مفهومية معينة تتخطى حدود المفهومية التي وضعتها القوة -المعرفة مسبقا. إن تلك فضيلة في أقل تقدير تحديدا لأنها تمنح منظورا يمكن للمرء من خلاله أن يحصل على مسافة نقدية من سلطة متأسسة. ولكنها أيضا فعل شجاع، العمل دون ضمانات، المخاطرة بالفرد على حدود تنظميها. كيف سيكون فوكو لو تفوه بكلمات كهذه؟ ما عدم الخضوع الذي سيمارسه لنا بهذا التفوه؟
لا يعني الحصول على مسافة نقدية من السلطة المتأسسة لفوكو التعرف على الطرق التي تعمل بها الآثار القهرية للمعرفة في تشكيل الفرد ذاته فحسب، بل في مخاطرة المرء بالتشكيل ذاته كفرد. ولذا في ” الفرد والقوة”8 سيزعم فوكو أن “بأن هذه الصيغة من القوة التي تُطبق نفسها إلى الفوري، الحياة اليومية التي تُصنف الفرد، وتحدده بفردانيته الذاتية، رابطة إياه لهويته الشخصية، فارضة قانون للحقيقة عليه يجب أن يتعرف ويتعرف الآخرون عليه فيه.” وحين يتداعى أو ينكسر هذا القانون، فإن احتمالية التعرف تقع في خطر. ولذا حين نتساءل كيف يمكننا قول “حرية أصيلة”، ونقولها في خضم حيرة، فإننا نضع محل التساؤل الفرد الذي قيل بأنه متجذر في ذلك المصطلح، محررين إياه بتناقض، من أجل مغامرة يمكنها في الحقيقة أن تمنح المصطلح مادة جديدة واحتمالية.
وفي الختام، أود العودة ببساطة إلى مقدمة استعمال المتعة حيث يُعرّف فوكو الممارسات التي تعنيه، “فنون الوجود”، فيما يتعلق بإنماء علاقة المرء مع ذاته. يأتي بنا ذلك النوع من الصياغة قريبا من نوع الفضيلة التي تقدمها مناهضة المؤسساتية لفوكو. وكما كتبت آنفا، حين يقدم فوكو “فنون الوجود” فإنه يشير بأن فنون وجود كهذه كأفراد منتجين “يسعون لتحويل أنفسهم في وجودهم الفردي، وبجعل حياتهم تحفة فنية.” يمكننا الاعتقاد بأن هذا يمنح دعما لتهمة أن فوكو قد جمّل الوجود على حساب الأخلاقيات، ولكن سأقترح فقط بأنه أظهر لنا بأنه لا وجود للأخلاقيات ولا السياسة دون الالتجاء إلى هذا الحس الفردي من التكون. الفرد المصاغ بالمبادئ المؤثثة بخطاب الحقيقة ليس الفرد الذي يسعى لتشكيل ذاته بعد. مرتبطا بـ “فنون الوجود” فإن هذا الفرد يُشكّل ويتشكل، والخط بين كيف يتشكل وكيف يصير مُشكّلا نوعا ما ليس بالسهل لو خُط يوما ما. حيث ليس الأمر أن الفرد يُشكل ثم يقوم يبدأ فجأة يشكل نفسه. بل على العكس، إن تشكل الفرد هو المؤسسة ذاتها من الانعكاسية وعدم التفريق التي تتخذ عبء التشكيل. “عدم تفريق” هذا الخط هو تماما المفصل حيث تتقاطع المعايير الاجتماعية مع المطالب الأخلاقية، واللذان يُنتجان في سياق الصنع الذاتي الذي لا يكون ذاتي الابتداء مطلقا.
وبالرغم من أن فوكو يشير بشكل صريح جدا للقصد والتعمد في هذا النص، إلا أنه يقول لنا أيضا كم من الصعب فهم التصميم الذاتي بمصطلحات لأي فهم سابق للقصد والتعمد. حيث يقدم فوكو لفهم مراجعة تلك المصطلحات التي يتطلبها استخدامه لها، مصطلحات “أنماط الاخضاع أو التذويت/ subjectification”
إن تلك المصطلحات لا تتعلق بالطريقة التي يتشكل منها الفرد، ولكن كيف تصير ذاتية التشكيل. هذا التصيير لفرد أخلاقي ليس أمرا بسيطا من المعرفة الذاتية أو الوعي الذاتي؛ إنه يدلل على “عملية حيث يحد المرء الجزء من نفسه الذي سيصيغ هدف ممارسته الأخلاقية.” تحد الذات من نفسها، وتقرر المواد لصنعها الذاتي، ولكن يحصل الحد الذي تؤديه الذات عبر المعايير التي بلا شك واقعة مسبقا. وبذا إذا ما فكرنا بأن هذا النمط الجمالي للصنع الذاتي مساق ضمن الممارسة الأخلاقية، يذكرنا هو بأن هذا العمل الأخلاقي لا يمكن أن يحصل إلا ضمن سياق سياسي أعرض، سياسة المعايير. ويوضح أن لا تشكيل ذاتي خارج نمط التذويت، أي لا تشكيل ذاتي خارج المعايير التي تدير احتمالية تشكيل الفرد.
لقد انتقلنا بهدوء من الاعتبار الاستطرادي للفرد لاعتبار أكثر نفساني لـ “الذات” ولعل المصطلح اللاحق يحمل لدى فوكو وكالة عن السابق. تشكل الذات نفسها، لكنها تفعل ذلك ضمن سلسلة من الممارسات التشكيلية التي تتصف بأنماط من التذويتات بحيث أن المدى المحتمل لصيغها المحدودة قُدما بصيغ كهذه من التذويت لا يعني بأن الذات أخفقت في تشكيل ذاتها، أو أنها تشكلت بالكامل. على العكس، إنها مجبرة على تشكيل نفسها، ولكن ضمن صيغ قيد العمل أو عاملة مسبقا بشكل أو بآخر. أول لعل يمكن للمرء أن يقول، أنها مجبرة على تشكيل نفسها ضمن ممارسات حاصلة بشكل أو بآخر. ولكن إذا كان هذا التشكيل الذاتي قد عُمل في عصيان للمبادئ التي شُكّل المرء عبرها، إذن تصبح الفضيلة حينها الممارسة التي تصنع الذات نفسها في عدم خضوع، مما يمكن أن يقال بأنها تخاطر بتشويه نفسها كفرد، محتلة الموقع الغير آمن أنطولوجيا الذي يحوي السؤال من جديد: من سيكون فردا هنا، وماذا سيعتبر حياة، لحظة من التساؤل الأخلاقي التي تتطلب بأن نكسر عاداتنا في الحكم لصالح ممارسة مخاطرة أكثر تسعى إلى انتاج فني من القيود.
[1] This essay was originally delivered, in shorter form, as the Raymond Williams Lecture at
Cambridge University in May of 2000, then published in longer form in David Ingram, ed., The
Political: Readings in Continental Philosophy, London: Basil Blackwell, 2002. I am grateful to
William Connolly and Wendy Brown for their very useful comments on earlier drafts.
[2] Raymond Williams, Keywords, (New York: Oxford University Press, 1976), 75-76.
[3] Theodor W. Adorno, “Cultural Criticism and Society” in Prisms, (Cambridge, MA.: MIT
Press, 1984), 30.
[4] Michel Foucault, “What is Critique?” in The Politics of Truth, eds. Sylvère Lotringer and
Lysa Hochroth, (New York: Semiotext(e), 1997), transcript by Monique Emery, revised by
Suzanne Delorme, et al., translated into English by Lysa Hochroth. This essay was originally
a lecture given at the French Society of Philosophy on 27 May 1978, subsequently published
in Bulletin de la Société française de la philosophie 84:2 (1990) 35-63; 21
[5] For an interesting account of this transition from critical theory to a theory of
communicative action, see Seyla Benhabib, Critique, Norm, and Utopia: A Study of the
Foundations of Critical Theory (New York: Columbia University Press, 1986), 1-13.
[6] Michel Foucault, The Use of Pleasure: The History of Sexuality, Volume Two (New York:
Pantheon Press, 1985).
[7] Michel Foucault, The History of Sexuality, Volume One (New York: Random House, 1978).
[8] Michel Foucault, “The Subject and Power” in Hubert L. Dreyfus and Paul Rabinow,
eds., Michel Foucault: Beyond Structuralism and Hermeneutics, (Chicago: University of