“نقاش عمّا إذا كانت قراءة الروايات تجعلنا بشراً أكثر خُلُقاً. لكن ماذا لو كانت القيمة الحقيقة لقراءة الروايات تتضمن شيء آخر أكثر جوهرية؟”
بقلم: KAREN SWALLOW PRIOR
ترجمة: سحر جعفر الكيشوان
جرى مؤخراً نقاش حاد في صفحات النيويورك تايمز (The New York Times) حيث نوقشت مقالة غريغوري كيري (Gregory Currie) وعنوانها “هل يجعلنا الادب الرفيع أناساً أفضل؟”. و يصرح كيري في هذا المقال بأن الاعتقاد السائد فيما لو كانت القراءة تجعلنا أكثر خُلُقا يحظى بقليل من الدعم.
ورداً على هذا المقال، ساهمت آني مورفي بول (Annie Murphy Paul) في هذا النقاش قائلةً بأن “قراءة الادب الرفيع تجعلنا أذكى وألطف.” وجادلت آني بأن “القراءة العميقة،” هو ذلك النوع من القراءة الذي يتطلب نشاط معرفي مميز وهذه القراءة تساهم في تعزيز قدراتنا على التعاطف مع الاخرين؛
ولهذا السبب فإنها في الحقيقة تجعلنا “أذكى وألطف” من بين جميع الصفات الأخرى. مع ذلك، فهذه المقالات لم تأتي بإستنتاجات جديدة بقدر ما أتت بأسئلة عديدة.
ومن أجل اثبات فرضيتها، استشهدت بول (Paul) بدراسات أجريت من قبل رايموند مار (Raymond Mar)، وهو طبيب نفسي في جامعة يورك (York) في كندا، وكيث أوتلي (Keith Oatley)، وهو استاذ فخري في علم النفس في جامعة تورونتو (Toronto).
واقترحت نتائج بول و كيث ب[أنّ هؤلاء الذين “يقرأون الادب القصصي في اغلب اوقاتهم يكونون الأفضل في فهم الاخرين، في تعاطفهم معهم وبإستطاعتهم رؤية العالم من وجهة نظرهم.” إنّه نفس الشيء الذي تحدثت عنه الكاتبة جويس كارول أوتس (Joyce Carol Oates) عندما قالت بأن “القراءة هي الوسيلة الوحيدة التي نستطيع من خلالها، ومن دون محض إرادتنا، أن نخترق شخص آخر، صوت شخص آخر، وروح شخص آخر.”
حظيت إستنتاجات أوتلي ومار بدعم كبير، كما صرح بول، وقد أُشير إليها في دراسات حديثة في علم الاعصاب، علم النفس، والعلوم المعرفية. يظهرهذا البحث بأن “القراءة العميقة_ البطيئة، المعقدة، والمليئة بالتفاصيل الحسية والتعقيدات العاطفية والمعنوية – – هي تجربة مميزة، “هذا النوع من القراءة يختلف تماماً من حيث النوع والكيفية عن كونه “مجرد حل رموز أو شفرات الكلمات” وهذا النوع من القراءة هي القراءة المعتمدة من قبل الكثير من طلبتنا وفي مدارس عديدة ( كما كتبت عن ذلك سابقا).
أستنتج بول مقالته بالإشارة إلى الناقد الادبي فرانك كيرموند (Frank Kermode)، والذي عُرِف بتمييزه بين “القراءة الجسدية”— وهي القراءة النفعية التي نحصل من خلالها على المعلومات بشكل سريع وهذا النوع من القراءة يشكل جزءاً كبيراً من نظام قرائتنا اليومي.
أما “القراءة الروحية” فهي قراءة من أجل المتعة، التفكير، التحليل، والتطور. ومن خلال هذه المقارنة، ينشأ الجدال فيما لو كان الادب الرفيع يجعل البشر افضل، أم أن الأناس الجيدين يميلون الى قراءة الادب الرفيع؟ وهذا الجدال يشبه السؤال الجدلي الشائع الذي يقول “أيهما جاء أولاً البيضة أم الدجاجة؟”
ويعود كيري ليسأل فيما لو كانت قراءة الأدب الرفيع تجعلنا اكثر خُلُقاً—وهذه قضية قد نوقشت مسبقاً من قبل ارسطو في كتابه “فن الشعر” (Poetics) ( وفي هذا الكتاب يدافع أرسطوعن الادب بكونه يجعلنا أكثر خُلُقا). وقد استشهد غريغوري بالنازيين المثقفين والقراء الجيدين منهم كمثال للجدل.
والمشكلة في ذلك (بعيدا عن الوقوع في فخ قانون غودوين *Godwin’s Law) هو أن النازيون كانوا، في الواقع، يتصرفون بإمتثال صارم لما تملي عليهم القوانين الاخلاقية، حتى لو كانت هذه تشريعات فاسدة كما هو الحال في الرايخ الثالث. لكن بول يمعن النظر في أن الأدب الرفيع لا يتعلق بطبيعتنا الاخلاقية وإنّما بطبيعتنا الروحانية.
ما يستطيع الأدب الرفيع فعله وما قام بفعله حقا _هو شئ أعظم من كونه قدم لنا دروسا في الاخلاق – فالأدب الرفيع أثر بنا و لمس جوهرنا.
القراءة هي واحدة من النشاطات الانسانية القليلة التي تميزنا عن بقية المخلوقات. وكما لاحظ عدة باحثين، وقد ذكرت ذلك بول أيضاً في عملها الأخير، بأن فن القراءة، بخلاف اللغات المنطوقة، لا يكتسبها البشر بالفطرة. القراءة يجب ان تُعَلَّم.
القراءة تتعدى مفهوم علم الحياة، فهنالك شيء روحاني أعمق_ بكل ما في هذه الكلمة من معنى— عن امكانية البشر، واندفاعاتهم للقراءة.
في الحقيقة، لو استخدمنا كل مداركنا لفهم هذه الكلمة فالقراءة لا يعني فقط أن تقوم بحل مجموعة من الرموز المعطاة والعلامات في طريقة ميكانيكية، لكن القراءة تعني أيضاً محاولات البشر في التفسير و إيجاد معنى و أن يكون بأستطاعتنا قراءة شخصا ما أو حالة ما. فهذه الطريقة من القراءة تعتبر واحدة من أكثر النشاطات البشرية روحانيةً.
إنها القراءة الروحية — وليس مجرد فك للرموز— وهذه القراءة تحرر القوة التي يريد الادب الرفيع إيصالها الى جوهرنا. لهذا السبب، فان الطريقة التي نقرأ بها هي اكثر اهمية مما يجب علينا قراءته. في الواقع، قراءة الادب الرفيع لن تجعل القارئ شخصاً أفضل من ذلك الذي يجلس في كنيسة، في معبد، او مسجد. لكن قراءة الكتب بشكل جيد قد تقوم بذلك.
وهذا ما حدث لي. فعندما أُعيد ذكرياتي الادبية والروحانية، فإن الكتب التي قرأتها طوال حياتي قد شكلت رؤيتي للعالم، معتقداتي، ومسيرتي في الحياة كلها اكثر من اي شيء اخر. فقد تعلمت من رواية “الآمال العظيمة” (Great Expectations**) بأن الحكايات التي نصدق بها او التي نخبرها للآخرين قد تنفعنا ولكنه في الوقت نفسه قد تضرنا .
من “موت بائع متجول” (Death of a Salesman**) تعلمت خطورة التفسير الخاطئ لمفهوم الحلم الامريكي؛ من “مدام بوفاري” (**Madame Bovary) تعلمت أن أُعانق العالم الحقيقي بدلاً من الهروب والتحليق الى عالم الخيال؛ من “رحلات غولفر” (**Gulliver’s Travels) تعلمت بأن هنالك قيود عميقة تحيط منظوري المحدود؛ ومن “جين آير” (**Jane Eyre) تعلمت كيف اكون على طبيعتي.
تلك لم تكن مجرد دروس اخلاقية أو فكرية، على الرغم من أنها كانت كذلك في البداية. في الواقع، أصبحت القصص والعبر من هذه الكتب وكثيراً من غيرها جزءاً من حياتي وأصبحت تدريجياً جزءاً من اعماقي.
وكما يشرح يوجين أج. بيتيرسون Eugene H. Peterson في كتابه ” كُلْ هذا الكتاب” Eat this Book بأن”فن القراءة هي موهبة عظيمة، لكنه تعتبر كذلك فقط اذا كانت الكلمات تُفهم جيداً، تشغل حيز الروح—تُأكل، تُمضغ، تُقضم، وتُلتقط بمتعة بطيئة.”
ويصف بيترسون هذا الفن القديم أو ما يسمى بالقراءة الروحية قائلاً أن ” القراءة التي تصل الى اعماقنا هي تشبه الغذاء الذي يدخل الى أجسامنا، يتنشر في دمنا، ويتحول الى…حب وحكمة.” إنها تلك المهارات والرغبة لأن نقرأ بهذه الطريقة والتي يجب ان نكسبها لطلبتنا ولانفسنا. لكن هذا لن يحدث بمحض الصدفة.
ماريان وولف Maryanne Wolf، مديرة مركز بحوث اللغة والقراءة ومؤلفة كتاب “بروست والحبار: القصة والعقل القارئ “ Proust and the Squid: The Story and Science of the Reading Brainقدمت دراسة عميقة فيما يتعلق بعلم العقل. وقد وصفت ضعف القابلية العقلية لأن نقرأ بهذا الاهتمام والتركيز حيث يتوغل الأدب الى اعماقنا:
إن الخروج عن النص المقروء لتحليله، خلق استنتاجات وطرح افكار جديدة. فهو نتاج سنين من التشكيل و التكوين. فالخروج عن النص يأخذ وقتا، من الملي ثانية الى سنوات، وكذلك جهوداً لاجل أن نتعلم القراءة بشكل أعمق ، وأكثر إستيعاب. ومن أجل أن نُنجز كل تلك العمليات كقُرّاء خبراء واعين ولأننا فسيولوجيا وحرفيا نستطيع القراءة بطرق عديدة، أضف الى ذلك كيفية قراءتنا—وماذا نستوعب من هذه القراءة — فإنّنا سنقع تحت تأثير مضمون قراءتنا والمحيط الذي نقرأ فيه.
إنّ قوة القراءة الروحية هي في قدرتها على أن تسمو فوق جوهرنا، فوق اللحظة التي نعيشها، أو حتى الخيار الاخلاقي الذي في متناول يدنا. القراءة العميقة هي ليست ظاهرة بالامكان تحديدها كما حاول كيري إثبات ذلك على الرغم من أن بول برهن أيضا أن بالامكان تحديدها كظاهرة. مثل هذه القراءة لا تجعلنا أفضل بقدر ما تجعلنا بشراً.
*قانون غودوين وهو القانون الذي أدلى به مايك غودوين عام 1990 والذي ينص على أنه كلما طالت المناقشة عبر الانترنت، كلما زاد احتمال العثور على مقارنة تنطوي على النازيين أو أدولف هتلرفي نقاش معين. بمعنى آخر أن المناقشة وصلت لطريق مسدود حيث لا يفيد المشاركون في هذا النقاش بعضهم البعض وبذلك يحققون قانون غودوين.(المترجم)