اليوم في بريطانيا وبعد استفتاء «بريكسيت» الذي أخرجها من الاتحاد الأوروبي، تُرفع شعارات السيادة الوطنية في وجه العالم الإسلامي، لكن ما لا يعرفه الكثيرون: أن إنجلترا في مرحلة دقيقة من تاريخها، نشأ تحالف قوي بينها وبين العالم الإسلامي، وكان هذا التحالف عاملًا حاسمًا قاد إلى بريطانيا التي نعرفها اليوم. مقالٌ بجريدة «نيويورك تايمز» يُعطينا لمحة عن التاريخ المنسي بين المسلمين وإنجلترا.
عزلة سياسية واقتصادية
العام 1570 إنجلترا «البروتستانية» رفضت العودة إلى «الكاثوليكية». البابا يطالب بنزع التاج عن الملكة «إليزابيث الأولى»، والتي اعتلت العرش عام 1558. إسبانيا الكاثوليكية على وشك غزو إنجلترا، وأقدمت على منع تجارها عن أسواق هولندا الإسبانية. باختصار: عزلة سياسية واقتصادية تنذر إنجلترا البروتستانتية بالثبور.
لكن الملكة إليزابيث لجأت إلى العالم الإسلامي. كانت الامبراطورية العثمانية حينها الخصم الوحيد لإسبانيا، يحكمها السلطان «مراد الثالث»، وتمتدّ من شمال إفريقيا إلى شرقي أوروبا إلى المحيط الهندي. تحالف مع السلطان سيضمن لها انفتاحًا سياسيًا وتدفقًا تجاريًا إلى أسواق الشرق المربحة. لم تنس الملكة كذلك مد يدها إلى خصوم العثمانيين، ومن ضمنهم شاه إيران، وحاكم المغرب.
الشركات المساهمة
المشكلة كانت في أن الامبراطورية العثمانية أكبر حجمًا بكثير من جزيرة إليزابيث، وهو ما يجعل تمويل مثل هذه التحالفات التجارية أمرًا معجزًا، لكنها تمكنت من استغلال الاختراع التجاري الغامض الذي قدّمته أختها «ماري تيودور» «الشركات المساهمة»، وهي شركات يملكها بشكلٍ مشترك حاملو أسهم تموّل رؤوس أموالهم الرحلات التجارية، ويتقاسمون الأرباح، والخسارات أيضًا.
دعمت إليزابيث الشركة المسكوفية التي تاجرت مع بلاد الفرس، ولاحقًا نشأت الشركة التركية، وشركة الهند الشرقية. وفي ثمانينات القرن السادس عشر وقّعت اتفاقات تجارية مع العثمانيين دامت لأكثر من 300 عام، تمنح تجارها الولوج التجاري المجاني إلى أراضي العثمانيين. تحالف مماثل نشأ مع المغرب، مع تعهد ضمني بالدعم العسكري ضد إسبانيا.
العدو المشترك
الطريقة التي أقنعت بها إليزابيث نظراءها المسلمين بمثل هذه التحالفات تضمنّت نبرة خاضعة ظهرت في خطاباتها المكتوبة، والتي وصفت مراد فيها بأنّه «الحاكم الأعظم لولاية تركيا»، و«السلطان المتسيّد على إمبراطورية الشرق». استغلّت إليزابيث كذلك العداوة التي يتشاركها كل من البروتستانت والمسلمين ضد الكاثوليك، واصفة نفسها بأنها «المدافع الأعظم عن النصرانية في وجه كل أشكال الوثنية». فالبروتستانت، مثل المسلمين، يرفضون كل أنواع عبادة الرموز.
نجحت خطة إليزابيث نجاحًا باهرًا، وسار تجار إنجلترا في الموصل وحلب ومدن العالم الإسلامي، آمنين فيها أكثر من أوروبا الكاثوليكية التي كانت تطارد البروتستانت. وفقًا للمقال، فقد رأت السلطات العثمانية قدرتها على استيعاب كل المعتقدات علامة على القوة، وليس الضعف. بعض الإنجليز تحولوا إلى الإسلام؛ بعضهم كرهًا، البعض الآخر طوعًا؛ ربما بعد أن رأى الإسلام رهانًا أفضل من البروتستانتية الوليدة.
الأتراك لا يريدون الصوف
حوّلت المنتجات التجارية الجديدة حياة الإنجليز؛ السكر والحرير والسجاد والتوابل، غيّرت ما يأكله الإنجليز، وكيف يزينون بيوتهم وكيف يلبسون، حتى «شكسبير» استلهم مسرحية عطيل من زيارة أول سفير مغربي إلى إنجلترا التي دامت ستة أشهر.
لكن بينما تنعّم الأرستقراطيون الإنجليز في الحرير والتوابل، لم يكن الأتراك والمغاربة مهتمّين بالصوف الإنجليزي. كانوا في حاجة إلى السلاح. وقد وفّرته لهم الملكة إليزابيث، وانتقمت في الوقت ذاته من الكنائس الكاثوليكية؛ إذ نزعت القداسة عنها، ونزعت منها الحديد، وسيّحت الأجراس لتستخدمها في صنع الذخائر وشحنها إلى تركيا، مثبتة أن «صفقات الأسلحة الغربية تسبق بكثيرٍ مسألة قوات الكونترا الإيرانية»، وفقًا لتعبير المقال. كما عقدت صفقات مماثلة مع المغرب.
على الرغم من نجاح الشركات المساهمة، اضطرت الحكومة البريطانية إلى توقيع معاهدة سلام مع إسبانيا مباشرة بعد وفاة الملكة إليزابيث الأولى عام 1603، على يد الملك الجديد جيمس الأول، لكن تظل سياسة إليزابيث في الاستعانة بالمسلمين عاملًا اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا بالغ الأهمية في تاريخ انجلترا؛ الاستثمار التساهمي أنشأ في النهاية شركة «فيرجينيا»، التي أسست أول مستعمرة دائمة في أمريكا الشمالية.
اليوم، يقول المقال: من المفيد أن نتذكر أن ماضي إنجلترا والعالم الإسلامي كان متشابكًا أكثر مما قد نعتقد، في ظل الخطاب المعادي للإسلام الذي يؤجج المسار السياسي في بريطانيا.