عرف العرب منذ القدم مفهوم “التراث” بجانبيه، أو وجهيه: المادي والروحي. واستخدموا كلمة الإرث والميراث فيما يتصل بالجانب الثقافي والروحي.
وإن كان القرآن الكريم قد استخدم كلمة التراث في الإشارة إلى ما تركه السلف للخلف من موروث مادي أو معنوي، مثل قوله تعالى: “وتأكلون التراث أكلا لمّا”، ومثل قوله تعالى على لسان النبي زكريا: “فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب”، ويفسر لسان العرب الآية بأن النبي زكريا أراد أن يهب له الله من يرثه، ويرث النبوة من آل يعقوب. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: “نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة”. ويروي أن أبا هريرة قال لبعض الصحابة: أنتم هنا وميراث محمد يوزع في المسجد؟ ولم يكن في المسجد إلا جماعة تقرأ القرآن وتذكر الله، فكأنه أراد من هؤلاء الصحابة المشاركة في الميراث الذي أوحي إلى النبي. ويستخدم الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم كلمة التراث بدلالتها المعنوية في معلقته الشهيرة التي يعتز بها العرب، يقول:
وعتاباً وكلثومــاً جميعــــاً بهم نلنا تراث الأكرمينـــــا
ويرى الدكتور أكرم العمري في كتابه “التراث والمعاصرة” أن التراث الإسلامي هو كل ما ورثناه عن آبائنا من عقيدة وثقافة وقيم وآداب وفنون وصناعات، وسائر المنجزات الأخرى المعنوية والمادية، بما فيها الوحي الإلهي (القرآن والسنة) الذي ورثناه عن أسلافنا. ولكنه يميز التعامل مع الوحي الإلهي عن التعامل مع باقي مفردات التراث الأخرى، في عدم قبول الوحي الإلهي للانتقاء أو الاختيار، أو التطويع للواقع، وطرائق التفكير، لتوظيفه في تحقيق مصالح عامة أو خاصة، فالوحي الإلهي إطار يحكم الحياة، ولكنه يدعها تتطور داخله، فإذا انفلتت خارجه فقد وقع انحراف لابد من تقويمه. وأما المنجزات البشرية الحضارية والثقافية، فإنها قابلة للانتخاب والتوظيف، وفق الرؤية المعاصرة وحسب الحالة والمصلحة.
والتراث العربي أوسع زمنيا من التراث الإسلامي، فهو يضرب بجذوره إلى تراث الحضارات القديمة في منطقة الشرق الأدنى، وإلى تراث العرب قبل الإسلام بقرون طويلة. ولكن التراث الإسلامي أعمق وأغنى وأوسع جغرافيا من التراث العربي، فهو يضم إلى جانب تراث العرب تراث الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام كالفرس والهنود والمغول والمصريين والعراقيين وشعوب شمال أفريقيا .. الخ. ويقدم محقق التراث الكبير العلامة عبد السلام هارون في كتابه الذي يحمل هذا الاسم: مفهوما مستنيرا للتراث العربي، يجعله رديفا للتراث الإنساني، فهو “كل ما كتب باللغة العربية، وانتزع من روحها وتيارها قدرا بصرف النظر عن جنس كاتبه، أو دينه، أو مذهبه”.
وقد شغل التراث العربي الإسلامي مساحة واسعة من التاريخ الإنساني، متفاعلا معه أخذا وعطاء خلال قرون الازدهار الحضاري العربي الخمسة، ومازالت هذه التأثيرات تطل علينا عبر الإبداع الأدبي والفكري حتى الآن. ويمتد التراث العربي، مثل غيره من تراث الشعوب الأخرى من الأسطورة إلى الحكاية والسيرة وباقي مكونات التراث الشعبي، ومن التراث الشعبي إلى التراث الخاص والمدون، وفي مقدمته المادة التاريخية والثقافية.
والعلاقة بين الدين والتاريخ والتراث علاقة قديمة متجددة حسب مقتضيات تطور المكان والزمان، ففي العصور القديمة كان تاريخ الأنبياء والرسل هو الوجه الآخر للتاريخ الإنساني، بينما تاريخ الملوك والحكام هو وجهه المادي، أو تاريخ العمران الاجتماعي حسب تعبير العلامة ابن خلدون، وعندما انفصل التاريخ كعلم عن الدين والتراث عاد ثانية للاهتمام بالدين والتراث من خلال مناهجه الحديثة، في دراسة تاريخ الأديان، والتاريخ الثقافي للبشر، بينما اتجهت بعض العلوم الإنسانية التي نشأت وتطورت في القرنين الماضيين، كالأنثروبولوجيا، والفولكلور، واللسانيات، والنقد الأدبي، لقراءة التراث الإنساني قراءة جديدة من خلال مناهجها، لتغني معرفة الإنسان بذاته، وبتاريخه الوجداني، وبمحيطه الاجتماعي، وبجماعته الإنسانية. وانفرد الأدب، وخاصة في العصور الحديثة، بالنظر إلى التراث الديني والأدبي كمصدرين غنيين للإبداع الفني. فكأن الحياة المعاصرة، وما يكتنفها من عقبات مادية وعذابات روحية، تعيد للإنسان صلته بالدين، يستمد منه طاقة لمواجهة تحديات الواقع والعصر، التي لا تأبه كثيرا بمصائر الجماعات المستضعفة، والإنساني العادي، كما أعادت صلة هذا الإنسان بتراثه في مواجهة عوامل اقتلاعه من هويته، ليس لمجرد الاحتماء السلبي بهذا التراث كحل هروبي من إحباطات الواقع، ولكن للتفتيش في هذا التراث الغني، عن حلول خاصة به وبأمته، منطلقا من إيمان حقيقي بأنه يملك تراثا لو نفض عنه تراكمات عصور التدهور والتحجر والجمود، لوجد كنوزا عظيمة قادرة على إمداده بإجابات مبتكرة على أسئلة الواقع والعصر.
المصدر: كتاب “القصص الديني بين التراث والتاريخ” لـ “سيد خميس” ص: 8 – 11.