القراءة علاج لتسكين الألم المزمن ووصفة سحرية لشفاء الروح – نهى الصراف
منذ أمد بعيد، تُعرَّف قيمة القراءة عموماً على أنها مصدر معلومات ومتعة رائقة لتمضية أوقات الفراغ، بل وبعض الأوقات الأخرى أيضا. لكن توصلت مجموعة من الباحثين في دراسة إلى قيمة أخرى للقراءة؛ وهي علاج الألم المزمن للملايين من البشر حول العالم.
يدّعي علماء أن ممارسة القراءة وخاصة قراءة الأدب بصورة منتظمة، لها التأثير ذاته الذي يحدثه العلاج السلوكي- المعرفي على الدماغ، حيث تستدعي قراءة الكتب والروايات الأحداث والذكريات القديمة في حياة الأفراد، الأمر الذي يخفف عنهم أو ينسيهم الألم الذي يصاحبهم في وقتهم الراهن، حتى لو كان هذا خلال فترة القراءة تحديداً.
وأثبت باحثون من جامعة ليفربول البريطانية أن قراءة الأدب لها تأثيرها الإيجابي على جميع الفئات العمرية، في حين تمثل ملاذا لنسيان الآلام حتى تلك التي تتسبب فيها الأمراض المزمنة.
وأشار الباحثون إلى أن القراءة المشتركة تحديداً، أي التي تكون ضمن مجموعات، تسمح باستدعاء الذكريات الجميلة من الدماغ قبل الإصابة بالمرض، يحدث هذا الأمر حين تشجع القراءة وما توفره من آفاق جديدة في التفكير، الدماغ على إرسال رسائل جديدة -خالية من الألم- إلى الجسد.
جاء هذا في الدراسة التي نشرت في المجلة الطبية البريطانية للعلوم الإنسانية، التي أشرف عليها الدكتور جوسي بيلنغتون، الذي أكد أن القراءة المشتركة من المؤمل أن تكون بديلاً عن العلاج المعرفي السلوكي، في قدرتها على استدعاء الألم العاطفي إلى المنطقة الخاصة بالوعي لإدراكه مع كل ما يحيط به من مشاعر وأفكار سلبية، بهدف تغييره إلى قناعات وأفكار أكثر إيجابية، وهذا ما يفعله أيضاً العلاج المعرفي السلوكي الذي يستخدم في علاج بعض الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والقلق، إلى جانب العلاج الدوائي طبعاً.
وجاءت هذه الدراسة بعد فترة وجيزة من توصل أحد الباحثين إلى أن أكثر الناس معاناة من آلام الأمراض المزمنة هم الذين لم يحصلوا على شهادة جامعية.
وكانت الدراسة التي أجرتها مجموعة من الباحثين في جامعة بوفالو في مدينة نيويورك الأميركية، قد أشركت عينة تكونت من أكثر من 19 ألف مشارك تتجاوز أعمارهم الخمسين سنة.
وفضلاً عن النتائج الأولية التي توصلوا إليها، أكدت الدراسة أن العديد من الناس بدأوا يعبرون عن معاناتهم من آلام الأمراض المزمنة، في حين أن المشاركين الذين لم ينالوا قسطاً وافراً من التعليم الأكاديمي، أظهروا أنهم يواجهون أعراضاَ واضحة من الآلام بسبب الأمراض المزمنة التي يعانون منها وبنسبة 80 بالمئة، مقارنة بالمشاركين الأكثر ترقيا في سلّم الدرجات العلمية.
من جانب آخر، يقر الخبراء بأن قراءة الروايات تحديداً تجعل من الناس أكثر حساسية وإدراكا وتقديرا لمشاعر الآخرين، كما تجعلهم في مزاج أفضل.
ووجد باحثون أن قراءة الأدب عموماً تؤثر فينا بالطريقة ذاتها التي بها يؤثر فينا الاهتمام بأي موضوع؛ فمواصلة التمرين في أي مجال من مجالات حياتنا تسهل علينا إتقانه، وهو ما ينطبق على قراءة الأدب، فمواصلة القراءة تجعلنا أشخاصاً أفضل وأكثر فهماً لما يفكر فيه الآخرون.
وترى الدكتورة كريستين أنثيس -أستاذة علم النفس في جامعة ولاية جنوب كونيتيكيت الأميركية- أننا في الغالب نتعاطف مع أبطال الروايات ونشعر بما يشعرون به وقد يحلو لنا أن نضيف تجاربهم في الحياة إلى تجربتنا الشخصية، فنثريها ونقارب بين التفاصيل، وبذلك يسهم الخيال في إعادة تشكيل الواقع، فالقراء يواجهون في العادة مشاعر مشابهة لمشاعر أبطال الروايات من الشخصيات الخيالية ما يجعلهم يتعاطفون معهم، وكلما زادت قراءاتنا أتيحت لنا فرصة الاندماج في تجارب الآخرين (المتخيلة)، فننهل منها ما يناسبنا بما يعيننا على إعادة بناء هويات شخصية جديدة وربما أكثر نضجاً.
وتوفر القراءة فرصا مثالية لممارسة ودعم مهاراتنا في الذكاء العاطفي مثل التعاطف فضلاً عن الوعي الذاتي، إضافة إلى أهمية أن تكون خياراتنا مناسبة في انتقاء ما يعزز هذا الوعي، فروايات التشويق والرومانسية من شأنها أن تحقق أكبر قدر من الأحاسيس والمشاعر للتعامل مع الآخرين والتعاطف معهم، مقارنة بروايات الخيال العلمي مثلاً، وهذا الأمر تحدده الفروق الدقيقة في النوع الأدبي.
وتنصح أنثيس القراء باستغلال أوقات الفراغ -بما في ذلك الوقت المهدور في الانتظار في الطوابير- في المزيد من القراءة، بدلاً عن الانشغال بتصفح الهاتف النقال، فالانتظام في القراءة يمكن الناس من أن يصبحوا أكثر تعاطفاً ورهافة حسّ. في فعل القراءة هذا، يشبه القارئ برنامج الكمبيوتر الذي يعمل من خلال محاكاة الخبرات الممكنة بما هو متوفر في محيطه من معلومات.
وفي القراءة يمكننا أن نشعر بتهور الاندفاع لخوض مغامرة حب جديدة، أو التنزه على شاطئ البحر أو الاستمتاع بصباح عذب من أكتوبر، وقد نشعر بخيبة أمل عندما نتعرض لخيانة صديق أو باليأس لفقدان طفل في لحظة إهمال، وكل هذا يحدث في الخيال عن طريق الاستغراق في القراءة والتعاطف مع الشخصيات ومشاركتهم أحاسيسهم (فرحهم، حزنهم، غيرتهم، تهورهم، غضبهم…)، أي إننا نعيش حياة كاملة ومختلفة عن حياتنا الحقيقية، كل هذا يحدث أثناء فعل القراءة.
والأهم من ذلك أن قراءة الأدب تساعدنا على فهم الآخرين في محيط حياتنا الحقيقية، ويمكن أيضاً أن تضيّق دائرة خلافاتنا معهم ومع الغرباء أيضاً، لتصبح الأحداث والإخفاقات والنجاحات في الروايات التي نقرأها، دروساً مهمة في حياتنا الواقعية تملي علينا كيفيّة التصرف في مواقف معينة وكيفية تجنب مصائر غير متوقعة وأخطاء لا ينبغي أن نرتكبها، فهي ببساطة خبرة مضافة إلى خبرات حياتنا.