تأجير الرحم بين العلم والفقه – بقلم: سامح عبد الله
في الخامس والعشرين من يونيو 1978 أُقيمت ضجة كبرى في العالم ووسائل الإعلام آنذاك عند مولد الطفلة”لويز براون” والتي ولدت في هذا التاريخ نتيجة تلقيح بويضة الأم”ليزلي براون” التي أخذها منها الدكتور “باتريك جون براون” بمساعدة عالم الفسيولوجيا “روبرت ادوارز” وذلك في 12 نوفمبر 1977.
تم تسمية الطفلة “لويز” طفلة الأنابيب وهى فكرة تقوم على أخذ بويضة من المرأة عند خروجها من المبيض ووضعها في أنبوب خاص به سوائل فسيولوجية مناسبة ثم يؤخذ “مني” الرجل فيلقح أحد الحيوانات المنوية البويضة فإذا ما تم تلقيحها انقسمت البويضة الملقحة انقساماتها المعروفة وفي اليوم الرابع عندما يكون الرحم مستعداً لاستقبال البويضة الملقحة يعاد ادخالها لتعلق بجدار الرحم ثم تنمو بعد ذلك نمواً طبيعياً. وهذه العملية بطبيعة الحال محكومة بقواعد أخلاقية تقوم على أنه يجب التثبت من أن يكون من “مني” الزوج وليس من شخص آخر.
ومن قبل ذلك كانت عمليات التلقيح الصناعي حيث يتم فيها أخذ “مني” الرجل ويحقن بعد ذلك في رحم المرأة.
ثم بعد ذلك كان الحقن المجهري حيث يلقح الحيوان المنوي مع البويضة خارج الرحم في المختبرات الطبية ثم تعاد الأجنة بعد تخصيبها إلى الرحم.
وكل هذه الوسائل السابقة كان لها أثر عظيم في تجاوز عقبات كثيرة في مجال العقم ورغم أن جدلاً شديداً قد دار بشأنها عند بداية اكتشافها لكن الواقع العملي أضفى عليها شرعية ربما تفوق ما أضفته عليها الحجة سواء كانت علمية أو شرعية وبدأ العالم الإسلامي تحديداً يتعاطى معها على أنها لا تخالف الشرع في شيء.
وهكذا كان رد فعل العالم الإسلامي عندما أقرت المنظمة الإسلامية في دورة انعقادها بدولة الكويت عام 1998 استخدام البصمة الوراثية قرينة قطعية في القضايا المختلفة خاصة إثبات النسب ونفيه.
أما بشأن عملية “تأجير الرحم ”
ويطلق عليها بالإنجليزية (Surrogacy)
وهو موضوع هذا الحديث فنتعرض له بشيء من التفصيل من الجهتين العلمية والشرعية ونقول:
أنه في الحالات الثلاث السابقة كما أشرنا والمتمثلة في التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب والحقن المجهري يبدو أن الأمر قد تم الاستقرار على جوازها شرعاً لكن في هذه الحالة فإن الأمر يدق ولم يظهر أن ثمة توافق بين العلماء والفقهاء المعاصرين بشأنه.
وتأجير الرحم يحدث إذا كانت البويضة الملقحة وُضعت في رحم مؤجر ليست منه وتكون وظيفة الرحم المؤجر التنمية والتغذية حتى اكتمال نمو الجنين وولادته أى أن عملية الإخصاب تتم خارج الجسم وفي هذه الحالة يطلق على الأم صاحبة البويضة ” الأم البيولوجية “ويطلق على الأم التي يستقبل رحمها هذه البويضة الملقحة “الأم البديلة” وعندما تلد الأخيرة الطفل يسلم إلى الزوحين مقابل ما تم الاتفاق عليه.
ولقد اتفق العلماء على امكانية حدوث ذلك وهو ما تم بالفعل وأصبح تأجير الرحم من الطرق التي يكافح بها العلماء العقم حينما لا يكون الرحم الطبيعى قادراً على القيام بدوره في استقبال الجنين لأسباب صحية.
لكن الرأى الفقهي قد جاء على خلاف ذلك فقد تم تحريمه من قبل مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي منذ انعقاده في الأردن في أكتوبر ١٩٨٦ والواضح أن الأزهر الشريف يحرمه أيضاً ما عدا قليل من العلماء من بينهم الدكتور عبد المعطي بيومي.
(كما يبدو أن المسيحية تحرمه أيضاً ما عدا بعض الكنائس البروتستانتية فمازال الفاتيكان يرفض هذا النوع إذ يرى أنه يتعارض مع الأمومة الصحيحة)
ولقد جاءت حجة الفريق الذي يحرم هذا النوع من الإخصاب في التالي:
أولاً أن استِئْجار الأرْحام يترتَّب عليه مفاسد كثيرة، منها: أنه قد يؤدِّي إلى اختِلاط الأنساب، إذا كانت المستأجَرة متزوِّجة، وإن لم تكن متزوِّجة، فلن تسلم من الاتِّهام وسوء الظَّنِّ بِها.
ثانياً: عدم وجود علاقة شرعيَّة بين صاحبة الرَّحِم وصاحب المني ممَّا يقتضي القولَ بعدم مشروعيَّة هذا الحمل، فالحمل الشَّرعي لا بدَّ أن يكون من زوْجين.
ثالثاً:صاحب الحيوان المنوي ليس له حقُّ الاستِمْتاع بصاحبة الرَّحِم لذا لا حقَّ له في شغْلِ رحِمِها بِحملٍ ليس منها وليس لها.
رابعاً: أنَّ ذلك سيؤدِّي لنشوب خلافاتٍ ونزاعاتٍ حوْل أحقِّيَّة المرأتين بالأمومة: صاحبة البويضة، وصاحبة الرَّحِم.
خامساً:أنَّه يفسد معنى الأُمومة الحقيقيَّة التي فطَرها الله عليْها إذ غايةُ ما هنالك إقرار بويضةٍ بدون عناء ولا مشقَّة، بيْنما التي حملتْها عانتْ آلام الحمل، وتغذَّى بغذائِها حتَّى غدا بضعة منها.
سادساً: أنَّ فتح هذا الباب قد يؤدِّي إلى انتِشاره، وأن تسلكه كلُّ مَن أرادت أن تُحافظ على صحَّتها ورشاقة بدنِها، فيتحوَّل الإنجاب بِهذه الطريقة إلى مفاخرة ومتاجرة.
سابعاً: أنَّ رحِم المرأة ليس من الأشياء التي تقبل البذْل والإباحة بأي صورة كانت.
أما أصحاب الفريق الذي يجيزه فاستدلوا على ذلك بالآتي:
أوَّلاً: القياس، حيثُ قاسوا الأمَّ صاحبةَ الرَّحِم على الأمِّ من الرَّضاع.
ثانيًا: الضَّرورة، حيث يوجد بعض الأعراض المسبِّبة لعدم الإنجاب، مثل أن تولد المرأة بغير رحم، أو بدون أعضاء تناسليَّة غير المبيض، أو غير ذلك، فلِمَ لا نُجيز لهم الاستِفادة من التقدُّم العلمي الذي أنعم الله به علينا؟!
تلك كانت حجة الفريقين من حرّم ومن أباح نقلناها كما هى آخذين في الاعتبار ما يمكن أن يصنعه سبق علمي كهذا بالنسبة لرأى الفقهاء فطالما كان العلم يأتي بالصدمة التي يعقبها الرفض القاطع ثم ما تلبس العقول أن تهدأ حتى تُفكر بعيد ثورة الرفض إلى سكينة القبول والأمثلة على ذلك في التاريخ كثيرة وقد ضربنا بعض الأمثلة على قبول بعض النظريات العلمية التى كانت موضع جدل كبير كان يجنح في معظمه للرفض لكنها أضحت بعد ذلك من الأمور المقبولة.
والحقيقة أننا لا نرى موجباً لهذا التحريم لأن شبهة قيام الزنا فيه غير وارده أخذاً بالمفهوم الذي تناول فيه الفقه الإسلامي شروط تحقق الزنا الموضوعية والشكلية.
كما أن شبهة اختلاط الأنساب غير قائمة إذ أن تلقيح البويضة إنما تم من زوجين غاية الأمر أن رحم الزوجة غير قادر على أن ينمو بداخله جنين من الناحية الطبية.
كما أن هناك أمر ثالث وهو أن الرحم المؤجر هنا لا يختلف كثيراً بل ربما يطابق إرضاع الطفل الأجنبي ولم يقل أحد من الفقهاء أنه محرما وأن كل أثره يقتصر فقط وبشروط معينة أنه يعد مانعاً من الزواج.
إن الحالات الثلاث التى تعرضنا لها آنفاً ( التلقيح الصناعي–أطفال الأنابيب–الحقن المجهري) لم تكن محل ترحيب من الفقهاء عند ظهورها لكنها بعد ذلك أضحت واقعاً داخل جنبات المجتمع الإسلامي الكبير ولا نجد فارقاً بعيداً فيما بينها وقد تم إقرارها شرعاً وبين تأجير الرحم وهو ما تم تحريمه رغم أن العلة واحدة فلماذا يختلف الحكم فيما بينها إذن؟!
صحيح أنه وقد نمت البويضة في رحم لمدة تسعة أشهر أن تتكون رابطة روحية بين صاحبة الرحم المؤجر وبين المولود ومن المتصور أن يحدث هذا النزاع بين أم هى صاحبة البويضة وبين أم هى صاحبة الرحم الذي نمت داخله وربما يوم ما تشهد أروقة المحاكم مثل هذا النوع من المنازعات.
هذا متصور لكن الذي لا يمكن أن نتصوره أن نحكم على تجربة علمية بحكم فقهي لم يستند إلى دليل قطعي.
أن السوابق التاريخية قد رجحت كفة العلم وأصبح هؤلاء الذين كانوا يرفعون لواء التحريم هم أنفسهم الذين لا يتوانون في الذهاب إلى عواصم البلدان الأوربية الكبرى ليضعوا اجسادهم تحت آيادي العلماء تُعمل فيها أثر العلم من أجل الحياة.
أكاد أجزم أن عمليات تأجير الرحم أو الرحم البديل بضوابطها الأخلاقية ستأخذ طريقها نحو التحرر من قيود لا تستند إلا دليل قطعي لا لشيء إلا لأنها تأتي من قلب الدين الصحيح الذي رفع شأن العلم والعلماء.
ولن أسبق الزمن عندما أقول أن مثل هذه التجارب العلمية وغيرها مما سيقدمه لنا العلماء ستكون لها الكلمة العليا وسيصبح هذا الجدل يوماً ما مثل الجدل الذي ثار وقت ظهور تجارب علمية مشابهة انتصر فيها العلم بينما توارى الجدل وانزوى بعيداً ولم يعد له أثراً.