مقالات عامة

الواسطة والمحسوبيات على حساب الكفاءات والمؤهلات – بقلم: محبة نجار

إنّ المحسوبيات في مجتمعنا تعد سمة بارزة وصفة ظاهرة ابتلى بها كثير من الناس، فكان لهم نصيب منها، وقد طغت ذيولها واتخذت أبعاداً مختلفة، ولم تدع جهة ولا موقعاً ولا إدارة ولا مؤسسة سواءً كانت حكومية أو غير حكومية، إلا وطالتها. وتسمّى أحياناً بالواسطة، وما أرمي إليه هنا، تلك المحسوبيات المذمومة التي تقوم على ظلم الناس وغمط حقوقهم، فالمحسوبية أو الواسطة كما يطلق عليها، تعني تفضيل ومحاباة أشخاصاً مقربين، وتلبية مصالحهم وتقديم الخدمات لهم، من وظائف وترقيات وترفيعات وغيرها، رغبة في تحقيق منافع خاصة تكون على حساب ذوي الكفاءات والقدرات.

وقد تتعدى المحسوبيات إلى تحصيل فوائد أو رشوة مقابل إنجاز مهمة أو مصلحة، فهو من أشد ما يكون وبالاً على الأمة وأكثر ظلماً لها، وإنّ مجتمعنا لا يخلو منها إلا أنها وبدون شك محاربة من الجهات الرقابية التي تتصدى لها، وما يهم هو معرفة إلى أي مدى انتشرت المحسوبيات بين أفراد المجتمع؟ وأين تكمن؟ وما المقابل أو المردود الذي يجنيها صاحبها من إتمام صفقة الواسطة؟ وما أثرها على ذوي الكفاءات والتأهيل الذين تم تخطيهم وتجاوزهم بمن هم أقل منهم مستوى؟ وما مدى مصداقية ودقة أدوات ومعايير المفاضلة المستخدمة في الترشيح؟ وهل هناك أنظمة وقواعد تحول دون المحسوبيات وتمنع الواسطات؟ وإن وجدت فكيف يتم التحايل عليها؟ وما الأسباب التي تؤدي إلى انتشارها؟

تعد المحسوبية عنصراً من عناصر الفساد، ومظهراً من مظاهر المجتمع المتخلف التي تؤدي إلى تراخي العاملين في شتى مرافق حياة الناس، وتواكلهم طالما أنها تفشت وأضحت متكأً أو ملجأً لأصحابها والمنتفعين منها، انطلاقاً من مبدأ (حكلّي لأحكلّك)، وأصبحت ثقافة تربت عليها أجيال وتوارثتها أجيال تلو أجيال؛ فالمحسوبية تقوم على أحد اعتبارين أو كلاهما معاً، صلة القرابة والمصلحة الشخصية وليس الكفاءة والأهلّية، ولا نعني الواسطة التي تقوم على قضاء حوائج الناس، لأن هذا العمل من نوع الشفاعة والانتفاع المحمود وقد جاء ذكره في كتاب الله عز وجل في قوله تعالى (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا ۖ وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا) (النساء: 85)، بشرط ألا تكون على حساب الآخرين أو مخالفة للأنظمة والتعليمات المرعية أو ما يترتب عليه ضرراً مادياً أو معنوياً، فهذه الواسطة محمودة ومطلوبة وصاحبها نحسبه إن شاء الله من المأجورين، ولكن ما نعانيه في تعاملاتنا الحياتية على أرض الواقع، هي تلك المحسوبية الذميمة والواسطة القميئة، التي تستهدف غير المستحق على حساب من يستحق، والظالم على حساب المظلوم والجاني على حساب المجني عليه، والمتعالم على حساب العالم، فكم وجدنا من وظائف شاغرة في جهات ومراكز حكومية أو أهلية تم الإعلان عنها وحُدُّد لها شروط وضوابط، ويتقدم لها عدداً من الراغبين، فتجرى لهم اختبارات ومقابلات شخصية وتكون المفاجأة عند الإعلان عن أسماء المقبولين الذين تم تعيينهم وترى من ضمنهم أصحاب الواسطة (فيتامين واو) قد خطفوا المقاعد وطاروا بها على حساب أولئك الغلابة الأجدر والأحق منهم، الذين لا معين ولا ناصر لهم إلا الله، وأما إذا لم تعلن الشواغر المتاحة فهذه عبارة عن وظائف إقطاعية خاصة لأصحاب السعادة وذوي الوجاهة وكبار الشخصيات فهي للأحباب والأصدقاء ومن لهم رابطة من قرابة أو نفوذ أو مصلحة، وتفاجأ في غضون فترة وجيزة بأولئك المعينين الجدد الذي لا يَعلَمُ أحداً كيف تم ترسيمهم أو توظيفهم، في حين نجد أنّ الإجراءات النظامية قد تطبق في الدوائر والمرافق المختلفة، ويوهم المتقدمون والمجتمع والرأي العام أنّ ضوابط الترشيح لا غبار عليها، وهي سليمة لذر الرماد في العيون، ولكنهم لا يعلمون ما أخفي عنهم وما يحاك خلف الكواليس والغرف المظلمة والأبواب الموصدة من تلاعب وانتشال الموصى عليهم من الهبوط والاستبعاد، إلى التقدم والفوز بالترشيح غير النزيه عندما يكون على حساب من هم أعلى وأجدر منهم، الذين تم استبعادهم وحرمانهم ظلماً وجوراً، ولكن ما مصير هؤلاء المستبعدين الذين يحملون مؤهلات وهم على درجة من الكفاءة والقدرة ولديهم طموحاً وأملاً في المجال أو التخصص الذي تقدّموا إليه ولم يتحقّق لهم، وإنما سُلب منهم وصار لغيرهم، كيف ستكون أوضاعهم ونفسياتهم لا شك أنه سيتولد لديهم كرهاً ورغبة في الانتقام لمجتمعاتهم، ويسيطر عليهم اليأس ويقعون في براثن الإحباط فتدعوهم إلى إثارة الحزازيات وإيغار الأحقاد بعد أن تكسرت آمالهم على صخرة المحسوبيات التي وقفت لهم سداً منيعاً حطمت أحلامهم، كما أن ذلك سيكون خسارة للمجتمع قبل كل شيء، وهدراً للأموال المنفقة في تعليمهم وضياعاً للطاقات المنتجة للوطن مما يجعلهم ينداحون في أرض الله ويهيمون على وجوههم في كل وادٍ بحثاً عن أي عمل يجدونه طالما يدرّ عليهم ما يكفي الحد الأدنى من سبل المعيشة الكريمة، فيتنازلون عن أمنياتهم البائسة وإن كانت تلك الأعمال الكاسدة أقل من مستوى مؤهلاتهم وطموحاتهم، ولا تتناسب معها ونحسب أنّ جلّهم من أسر محدودة الدخل ومتواضعي الحال.

وكذلك بالمثل فإن المحسوبيات تجاوزت إلى الوظائف القيادية، كمدير إدارة أو قائداً أو رئيساً أو مسؤولاً في قسم أو دائرة أو جهة، فكم رأينا من يُرشّح لها هم مَن كان أكثر قرباً ومصلحة وعلاقة من المسؤول الذي بيده ناصية قرار الترشيح، وإن كانت في كثير منها تخضع للانطباعات الشخصية وليس من خلال معيار دقيق للتقييم والمفاضلة بين المتنافسين، ولو ألقينا نظرة حول طبيعة اختبارات المفاضلة التي يخضع لها المتقدمين للوظائف والأعمال الشاغرة في الأجهزة الحكومية، والمؤسسات والشركات الأخرى على اختلاف مجالاتها وطبيعة أعمالها، نجد أنّ الذي يتولى إعدادها غالباً يكون شخصاً من الدائرة المعنية، أو مسؤولاً فيها، ربما عُرِف عنه الكفاءة والجديّة والأمانة، ولا بأس في ذلك، ولكنه لا يمكن إغفال ما يشاع لدى الكثير ممن مرّوا بهذه التجربة وتم غض الطرف عما لاحظوه من أخطاء متعددة تعجّ بها اختبارات الترشيح، ومنها طريقة صياغة الأسئلة اللغوية، وعدم وضوحها أو المقصود منها، أو أنّ فكرة السؤال غامضة، أو أن بعضاً من الأسئلة الموضوعية كالاختيار من متعدد أو أسئلة الصح والخطأ وغيرها تشوبها أخطاءً في الاجابة لدى واضع الاختبار أو أنّ بعض الأسئلة تركز على جوانب معينة بعيدة عن مجال التخصص المطلوب للوظيفة، أو تُهمل قدرات رئيسة هامة تقيس مدى خبرة وبراعة وكفاءة المتقدم العلمية للمجال المرشح له أو أخطاء أخرى لم يتنبّه لها معدّ الاختبار، كما أنّ بعض واضعي الاختبارات ليس لديهم أهدافاً واضحة محددة يريد تحقيقها وقياسها من خلال الأسئلة، إما لقلة خبرتهم في مجال القياس والتقويم وشروط الاختبار الجيد أو لعدم معرفتهم بجوانب وأبعاد الخبرات والمعلومات الواجب توفرها في المرشح، وبطبيعة الحال أنّ هذه الأخطاء التي يقع فيها معدي الاختبارات ستؤثر في تقييم المتقدمين فقد يستبعد من يستحق الوظيفة وقد يجلب من لا يستحق فمثل هذا الاختبار يعتبر مجحفاً وغير منصفاً فالاختبار هو أداة يكون بمثابة الميزان الذي يقيس قدرات الأفراد بصدق وعدالة بناءً على متطلبات الوظيفة المطلوبة.

وأما الأسباب التي أدت إلى تفشي هذه الظاهرة فهي كثيرة بين أفراد المجتمع ومن أبرزها وأهمها ضعف الوازع الديني لدى الممارسين لهذا السلوك، وكذلك وجود بعض الثغرات في الأنظمة والقوانين التي تشجع ضعاف النفوس والضمير من اختراقها والتحايل والقفز عليها، وثمة سبب آخر يظهر في تأثير الأقارب والأصدقاء وتحقيق المصالح والترقيات أو الترفيعات والبدلات وغيرها.

أود أن أضع عدداً من النصائح والتوصيات التي من الممكن أن تكون بادرة خير يرجى منها، كما يلي:

1ـ نشر الوعي المجتمعي عبر وسائل الإعلام المختلفة، وقنوات التواصل الاجتماعي، وفي المدارس والجامعات والمساجد والمؤسسات والشركات والأجهزة الحكومية بمختلف قطاعاتها، ومؤسسات المجتمع المدني على ضرورة محاربة الواسطات والمحسوبيات السيئة التي تكون على حساب مصلحة الآخرين وبيان أضرارها ومخاطرها على المجتمع والتصدي لها ومنعها ونبذ كل من يتعامل معها.

2ـ وضع شعاراً في كل جهة حكومية أو أهلية يقوم على مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المتقدمين للمسابقات على الوظائف الشاغرة مع القناعة والإيمان أنّ العدالة هي أصل من أصول الدين أقرتها الشريعة الإسلامية وأنّ الإخلال بها تقويضاً لمكتسبات الأمة وتمزيقاً لمقدِّراتها.

3ـ إجراء تحديثات مستمرة للأنظمة والقوانين الحكومية من قبل أهل الاختصاص بما يحقق مصالح الناس ويراعي متطلباتهم وطمر جميع منافذ الاحتيال ومعالجتها، وفرض عقوبات رادعة للمخالفين، ووضع معايير وشروط واضحة يتم الإعلان عنها في كل مفاضلة أو مسابقة والتقيد بالشفافية التامة عند إعلان نتائج الفائزين في الوظائف بوضع أمام اسم كل من تم ترشيحه مبررات ودواعي الفوز في المفاضلة.

4ـ تكوين لجنة في كل جهة حكومية خاصة بإعداد اختبارات القبول والترشيح لمفاضلة الوظائف والأعمال المتاحة وأعضاءها من ذوي الخبرة العلمية والتخصص والكفاءة المهنية على أن يكون كل عضو فيها قد حصل على مؤهل أو دورة في مجال القياس والتقويم ولديه إلمام ومعرفة بمعايير ومواصفات الاختبار الجيد.

5ـ إعداد معياراً دقيقاً للمفاضلة والترشيح بين المتقدمين للمناصب والإدارات والمراكز القيادية يشتمل على مجموعة من العناصر التي تتطلبها هذه الأعمال المتاحة.

6ـ تكليف لجان رقابية منبثقة من الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد تكون مهمتها مراجعة صحة تطبيق شروط ومعايير مفاضلات الترشيح للمتقدمين في الوظائف أو الأعمال المعلنة أو التكليفات الخاصة بالمراكز القيادية في جميع الأجهزة والجهات الحكومية بشتى قطاعاتها ومجالاتها.

7ـ توجيه الشباب على العمل في مرافق أخرى غير الوظائف الحكومية (صناعية – زراعية – تجارية …) بما يتناسب ومؤهلاتهم وتهيئة الفرص المناسبة لهم وتشجيعهم للمشاريع المنتجة الصغيرة ودعمها.
إنّ المحسوبيات لها آثاراً سلبية مدمّرة تؤثر على المجتمع وتنحدر به نحو الفشل والتراجع والتأخر وعاقبتها وخيمة على المجتمع وطريقها محفوف بالدمار والهلاك، وهي معصية لله تعالى وضياعاً لمصالح الناس بغير حق وتؤدي إلى انهيار اقتصاد الأوطان واحتكار مفاصلها ومرافقها لفئات من البشر الذين لا همّ لهم سوى أنفسهم ومصالحهم الشخصية ومنافعهم الذاتية على حساب بلدانهم ومجتمعاتهم وتكبيلاً للجهود المتميزة وإقصاء للطاقات المنتجة وهدراً للقوى العاملة مما يجعل المجتمع متخلف عن مواكبة ركب الحضارة والتقدم والتنمية في سائر شؤون الحياة.

Public library

موقع المكتبة العامة يهتم بنشر مقالات وكتب في كافة فروع المعرفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى