هل لديك معرفة برسالة ابن خلدون التي يوجهها لنا ؟! – إبراهيم كالين، ترجمة ساكري البشير
ابن خلدون، واحداً من أعظم العقول في التراث الفكري الإسلامي، فهو الذي كتب الكثير حول التاريخ والثقافة، والمجتمع، والحضارة والسلطة السياسية من أي مفكر مسلم، لديه رسالة لكل واحد منا اليوم، نحن الذين نعيش في عصر يتسم بتزايد انعدام الأمن والفوضى العالمية.
عبد الرحمن بن محمد ابن خلدون (1332-1406)، واحد من أعظم العقول في التراث الفكري الإسلامي، اشتهر برائعته التي تسمى بـ ” المقدمة” ، كتب فيها عن التاريخ والثقافة،المجتمع والحضارة والسلطة السياسية أكثر من أي مفكر مسلم آخر، حيث قادته ملاحظاته العميقة للمجتمعات الأفريقية الشمالية، التي كان جزءا منها، إلى وضع مفهوم مثير للاهتمام من التاريخ العالمي والحضارة العالمية.
فالعقل بالدرجة الأولى و إطلاعاته الواسعة في جميع المجالات الرئيسية للمعرفة، مكَّن ابن خلدون من أن يكون مفكرا فاعلا، حيث يعتبره البعض مؤسس علم الإجتماع، ويعتبره المؤرخون بحكمته مقياسا لـ صعود وسقوط القوى العظمى، في حين أن الماركسيين يثنون عليه وعلى أفكاره التي إخترقت حجاب سلطة القوى الإقتصادية وتشكيلها – هذه القوى – المواقف الفردية والعلاقات الإجتماعية.
إكتشف العثمانيون والمؤرخون فكرته عن “العصبية” لشرح النجاحات والإخفاقات الإمبراطورية على مر القرون، فالبعض يعتبرونه أعظم فيلسوف للحضارة، ذلك أنه ذو أهمية بالغة، بغض النظر عن الزاوية التي تقربنا منه.
الآن؛ ابن خلدون له رسالة لكل واحد منا اليوم، فنحن الذين نعيش في عصر يتسم بتزايد انعدام الأمن والفوضى العالمية، فهو يخبرنا بأن مفتاح المادية والرفاهية الروحية للمجتمع هو التماسك والتضامن؛ لأن البشر بطبيعتهم ” كائنات سياسية”، بمعنى أنها كائنات ترتبط بالعيش معاً من أجل الحفاظ على نسبهم، وتلبية احتياجاتهم الأساسية، وتحقيق إمكاناتهم ليكونوا “متحضرين”، فتسخير القوى المدمرة المتأصلة في طبيعة الإنسان هي ما دعت إلى تعليم الناس كيفية التعايش ومساعدة بعضهم البعض، وهذا يتطلب مجموعة من المبادئ الأخلاقية والسياسية في جميع النواحي التي يُراد لها أن تكون متحدة، والأهم من ذلك، أن ليس هناك حضارة دون أسس ميتافيزيقية، يتم من خلالها تجاوز تلك العوامل التي تفقد المجتمعات تماسكها الإجتماعي وتضامنها من قبل مجتمعات أخرى تسعى للحفاظ على هذه الوحدة والقوة والمرونة.
والسؤال الأساسي والأكثر أهمية بالنسبة لإبن خلدون هو: ” ما الذي يُبقي مجموعة من الناس معا ويوحدها؟”؛ هذا هو الأساس لكل ثقافة أو حضارة أو سلطة سياسية أو سلطان (ملك)، ودون هذه المقومات الأساسية، لا يمكن بلوغ القوة السياسية في أي جماعة من الناس، أو قبيلة أو عشيرة أو المجتمع الأكبر، وبناء حياة حضارية والمحافظة عليها، وهنا نلتقي مع ابن خلدون في مفهومه المركزي عن ” العصبية”، أي مجموعة المقومات التضامنية والتماسك الاجتماعي؛ فالعصبية هي الحلف أو الولاء الذي يربط جماعة معاً، لأنه يعطيهم القوة والقدرة على حمايتهم من العدو الخارجي، كما تمكنهم من إقامة السلام والنظام فيما بينهم، إنها تعدهم لبناء ” العمران أي المدنية” أو الحضارية.
ولكن؛ هنا أيضا نواجه معضلة خلدونية رئيسية هي: عندما يتم تفويض مجموعة من الأشخاص من قبل هذه العصبية ويصلون للحياة المدنية، وبلوغ الحضارة أوجها، فإن هذا المجتمع يبدأ بفقدان تماسكه الاجتماعي والشعور بالتضامن نحوها، حيث يبدأ الأفراد بالتمتع في مزايا الرفاهية والراحة في الحياة الحضارية، فإن هذا المجتمع يصبح رخواً وكسولاً، ولا يمكنه حتى حماية نفسه من هجمات أولئك الذين يسعون للحفاظ على “الحياة البدوية” لأنهه سيفقدون صفة المحارب، لذلك فهي فقط مسألة وقت لا أكثر، ليتم تحطيم هذه المدنية/الحضارة من قبل البدو.
في النموذج الخلدوني، ثمن الحضارة والتمدن هو فقدان التماسك الإجتماعي والتضامن الجماعي وكل الصفات النبيلة التي تأتي معها، وأولئك الذين يفقدون العصبية يفقدون معها الأصالة أي طبقة النبلاء؛ وتصبح بذلك هذه الظاهرة متكررة، وتسمى بالدورة الإجتماعية الأبدية، حيث القبائل والأمم والدول والإمبراطوريات في صعود وسقوط مستمر.
يعتقد ابن خلدون أن العمر الافتراضي لهذه الدورة يقدر بحوالي أربعة أجيال؛ أي ما يزيد على قرن، كما أعرب عن إعتقاده أن أهم عامل للتماسك الإجتماعي هو قرابة الدم، ولا يوجد أي رابط أقوى قابل للتعايش أكثر من رابطة الدم التي تربط الناس معا، ولا أحد يجرؤ على مهاجمة أولئك الذين تربطهم صلة قرابة قوية، ولكن تفقد هذه الجماعة شعورها بتلك القرابة عندما يتحولون من مرحلة البدو إلى مرحلة التمدن والتحضر، ليستمر هذا الفقدان بذلك الرابط كلما غاصت الجماعة أكثر فأكثر في الحياة المدنية.
إن ابن خلدون يرى بأن أي وسيلة للخروج من هذه المعضلة: هو أن بلوغ القوة والحياة المدنية والحضارة، ولا يتحقق هذا إلا عن طريق العصبية الخاصة بكل جماعة، ولكن عند البدء في التمتع برفاهية الحياة المدنية المستقرة والمتحضرة، تفقد هذه الجماعة ذلك الرابط الخاص بها فتفقد بذلك تماسكها.
من الواضح أن النظرية الخلدونية منطقية جدا في بعض المجموعات الصغيرة مثل القبائل، لكنها لا ترقى لشرح وحدات اجتماعية أكبر، وكيف أنهم يأتون معا لتأسيس الدول والإمبراطوريات التي طال أمدها، كما تعتبر تعقيدات العالم المعاصر الذي نعيشه تحديا كبيرا لنظريته، فهل نرمي بنظريته على أساس أنها تفسر القبيلة فقط، وقد عفا عنها الزمن؟
الإجابة بالطبع ستكون “لا”، بينما ينبغي أن نواصل ونستمر في البحث عن سر الإشكالات التي تطرحها فكرته عن التماسك والتضامن الاجتماعيين القائمة على القرابة والعلاقات القبلية، كما يجب علينا تنقيح وتوسيع تحليلاته وتفسيراته لفهم المسائل الرئيسية المتمثلة في ” التماسك، والتمدن، والحضارة” في المناطق الحضرية والعالمية بشكل أكبر، هذه هي المهمة العاجلة، لا سيما بالنسبة للعالم الإسلامي المعاصر الذي يعاني من خلل في التماسك الإجتماعي وإنحلاله وتفككه وتشرذمه ليفقد تماما مقومات الوحدة الحضارية، ويعاني من فشل وضعف الجهات الفاعلة غير الحكومية، والقبلية، والطائفية، والقومية الإثنية، ومجموعة من المشاكل الأخرى التي تحرم هذه المجتمعات المسلمة من أي “إتحاد” والتي من شأنها حمايتهم من الأعداء، وتحقيق الموارد الفكرية والمادية للثقافة والحضارة.
يرتبط إذن مفهوم ابن خلدون للتماسك الإجتماعي والتضامن الإجتماعي بما يقوله القرآن الكريم في سورة الأنفال : “وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ” ﴿ سورة الأنفال – الآية:٤٦﴾، فعندما يبدأ أعضاء من نفس الجماعة أو الأمة الصراع مع بعضهم البعض بطرق كارثية مدمرة، فإنها تفقد ريحها، أي قوتها، وتتعثر في كل جانب من جوانب الحياة.
لقد آن الأوان لهذه المجتمعات الإسلامية المعاصرة أن تقرأ لإبن خلدون في ضوء محنتهم الحالية، من أجل الحفاظ على تماسكهم الإجتماعي والحضاري على حد سواء، لأنها قد تكون عملية تحول شاقة ولكنها تعتبر أحد أهم التحديات التي يجب أن تتحقق إذا أردنا التغلب على العديد من الأمراض الحديثة لدينا.
ــــــــــــــــــــــــــ
هذا المقال لا يعبر سوى عن رأي كاتبه، ولا يعبر بالضرورة عن رأي فريق المكتبة العامة