النجار والحكيم (قصة رمزية فلسفية) – بقلم: خيال بعيد
يحكى انه في بلاد الواق واق كان هناك نجارا يسكن أمام بيت حكيم الزمان وكان يرى مريديه يذهبون اليه كل يوم ليتعلموا منه الحكمة فشعر النجار بالحقد والغيرة تجاه الحكيم وقرر ان يسلبه مريديه فأخذ يتفكر في حيلة توصله لهذا الغرض وكان بارعا في النجارة فقرر ان يصنع من الخشب منتجات لم يكن يعرفها الناس ويحتاجونها في منازلهم من كراسي وأسرة وزهريات وشماعات وموائد للطعام وان يبيعها للناس حتى يحتج على الناس ويقول لهم (أنني انفعكم اكثر من الحكيم وماذا قدم الحكيم من اجل رفاهية الانسان — بينما انا قدمت لكم كل ما يجعل حياة الانسان اكثر رفاهية وسهولة ) وفعلا بدأ في تنفيذ خطته وقام بصناعة هذه المنتجات والتي لم يكن الناس يعلمونها من قبل او يستعملونها في بيوتهم .
وبعد ان انتهى من صناعتها قام بعرضها للبيع ولكن قابلته مشكلة عويصة وهي ان الناس امتنعوا عن الشراء وظلوا يذهبون للحكيم كي يتعلموا منه الحكمة — وعندما كان النجار يسأل الناس (لماذا لا تشترون هذه المنتجات هي سوف تنفعكم في معيشتكم ؟) كانوا يقولون له ( نحن لسنا في حاجة اليها ) وبالفعل هم لم يكونوا في حاجة اليها لأن معيشتهم استمرت لمئات من السنين بدون حاجة اليها وقد تعودوا على ذلك فشعر النجار بالغضب الشديد والاحباط واليأس لفشل خطته خاصة ان الناس مازلوا يذهبون للحكيم كي يتعلموا منه الحكمة ولكنه قرر ان يستمر في الخطة ويواجه التحدي فخطرت له فكرة وهي ان يعطي الناس هذه المنتجات الخشبية مجانا حتى يتعودوا عليها وتتغير معيشتهم ثم لا يقدرون بعدها على الاستغناء عنها فيضطرون لشرائها بعد ذلك .
وفعلا قام النجار بعرض منتجاته مجانا على الناس فتعجب الناس منه غاية العجب واتهموه بالجنون ولكنه تعلل لهم وقال (انني احب خدمة الناس والسعي في راحتهم ورفاهيتهم وليس المال كل شئ بل ان يضحي الانسان بحياته من اجل الانسانية لهو اعظم شئ في الوجود ) ولكن الناس أخذوا منه المنتجات لا لأنهم صدقوه وانما لأنه ليس من الحكمة ان يرفض الانسان شئ مجاني حتى وان لم يكن في حاجة اليه — ثم أخذ الناس بعد ذلك في استعمال هذه المنتجات في اغراضهم فصاروا ينامون على السرير الخشبي ويأكلون على المائدة ويجلسون على الكراسي حتى تعودوا على هذه الامور بمرور الايام وصارت جزء من حياتهم ومعيشتهم لا يمكن الاستغناء عنها ولكنهم بعد مرور عامين وجدوا ان هذه المنتجات قد تهالكت وصارت غير صالحة للاستعمال فذهبوا للنجار من اجل اصلاحها فقال لهم النجار (لقد اعطيتها لكم مجانا — وانا رجل فقير وصرفت كل ما أملك على خدمة الانسانية فلابد من ان تعطوني مقابل حتى اصلحها ) وبما ان الناس لم يعودوا قادرين على الاستغناء على هذه المنتجات فقد وافقوا على دفع المقابل فحصل النجار على ثروة طائلة من اصلاح هذه المنتجات ولم يكتفي بذلك بل انه توقف عن عرضها مجانا ووضع لها ثمن متعللا بأنه سوف يستعمل ذلك المال في خدمة الانسانية والفقراء ؟
وفعلا صار الناس يشترون منه المنتجات لأنهم لم يعودوا قادرين على الاستغناء عنها وصار من العار بينهم ان يوجد بيت خالي عن هذه المنتجات وصار جزء هام من جهاز العروس فاستطاع النجار بذلك ان يكون ثروة هائلة وأخذ يصرف منها على اعمال الخير والصدقات والفقراء حتى انتشر ذكره بين أهل القرية انه من أهل الخير وصار له مريدين مقتنعين بفكرته عن خدمة الانسانية وصار الناس رويدا رويدا ينصرفون عن الذهاب للتعلم من الحكيم بحجة انه (ماذا قدم للانسانية ورفاهية الانسان ؟) ثم صار النجار يعرض على الناس ان يأتوا بأطفالهم اليه حتى يعلمهم صنعة ينتفعون بها فأخذ الناس يدفعون اليه بأطفالهم ليعلمهم صنعة النجارة ولم يكتفي النجار بذلك بل كان يعلم صناعات اخرى لم يكن يعلمها أهل القرية مثل طرق جديدة في البناء ومثل حياكة ملابس فخمة مطرزة ومثل صناعات ترفيهية مثل خيال الظل ودميات خشبية يحركها بخيوط فصار الناس يجتمعون لمشاهدة هذه العروض وانصرفوا عن الحكيم وعن الذهاب اليه الا قلة قليلة وتغير نمط الحياة في القرية كليا ولم تعد كما كانت.
ثم ان النجار قال لتلامذته من الاطفال (يجب ألا تقتصروا على تعلم الصناعات فقط بل يجب ان تتفكروا في الكون والحياة وهل هناك فرق بين الانسان والحيوان الا الفكر ) فصار الاطفال يتفكرون في ظواهر الكون وفي اصل الوجود وفي تفسير سبب حدوث السحاب والريح والثقب الأسود وحركة السماء والأفلاك والهالة وقوس قزح والزلازل واصل الوجود وغاية الوجود وصار كل واحد فيهم يخبر بمذهبه في تفسير هذه الامور وبدؤا يتهامسون بأن الحكيم قد أخطأ في تفسير هذه الامور .
فالحكيم يزعم أن (الحجر يسقط نحوالارض اذا قذفناه لأعلى لأن مكانه الطبيعي هو الاسفل) بينما رأى احد الاطفال ان السبب هو أن (الارض تجذبه ) وكذلك الحكيم يزعم ان (الارض ساكنة والسماء هي المتحركة) بينما رأى الاطفال أن (الارض تدور حول الشمس ) وكذلك الحكيم يزعم أن (الضوء لا ينتقل من مكان لمكان لأنه ليس بجسم حتى ينتقل بل الجسم المظلم يضئ اذا قابله جسم مضئ بدون ان ينتقل ضوء من المضئ للمظلم ) بينما رأى احد الاطفال أن (الضوء جسم ينتقل من مكان لمكان وأن له سرعة وأنه مركب من فوتونات) وكذلك الحكيم يزعم أن (الثقب الاسود ما هو الا دخان تصاعد الى طبقة النار المحيطة بالهواء فإحترق ثم خمدت ناره فصار مثل جمرة نار انطفأت نارها فيظهر وكأنه ثقب أسود في السماء) بينما رأى احد الاطفال ان (الثقب الاسود هو عبارة عن نجم منقض قد انفجر وصار غائرا ويمكن ان يبتلع الاجسام ) وكذلك الحكيم يفسر كل حادث بأنه من فعل سبب خفي لم يره احد ويطلق عليه اسم (الله ) بينما رأى احد الاطفال أنه (لا حاجة بنا الى سبب خفي لتفسير ما نراه من تغيرات الاجسام بل السبب ظاهر لحواسنا فالقطنة تحترق لأن النار قد لاقتها وليس لأن هناك سبب خفي قد فعل ذلك) كما ان الحكيم يدعو للتقشف والزهد وعدم تمتع الانسان في حياته الدنيا طمعا في متع مؤجلة بعد الموت بينما رأى احد الاطفال اننا (يجب أن نقيم الجنة على الارض) وزعم أن الحكيم كان يقول بذلك من أجل (ارضاء الاغنياء حتى لا يحقد عليهم احد ولا يسلبهم احد ثرواتهم خاصة ان الاغنياء كانوا يأتون للحكيم ويقبلون يده ) .
وتدريجيا أخذت هذه الافكار تنتشر بين الاطفال حتى خرج طفل من الاطفال وقال (ان حكيم القرية هو من يفسد عقول الاطفال بالافكار الاجرامية التي يزرعها في عقولهم والتفسيرات اللاهوتية والميتافزيقية التي تجعلهم لا يعيشون في الواقع ) ثم بدأت تسري فكرة بين الاطفال وهي (هل افساد العقول جريمة يجب ان يعاقب عليها الحكيم ؟) ثم بدأ الاطفال في مجادلة أهل القرية فيما فعله الحكيم من افساد العقول وأنه يستحق العقاب وهو القتل وأمام القدرات الجدلية التي تعلمها الاطفال من النجار اقتنع أهل القرية بضرورة قتل الحكيم لأنه أفسد العقول. وفي ليلة مظلمة بلا قمر حمل اهل القرية مشاعل من النار وذهبوا الى بيت الحكيم لإشعال النار فيه وانقاذ البشرية من افساده للعقول. وفعلا احرقوا بيت الحكيم وهم يهتفون (حرية اخاء مساواة ). ومات الحكيم . واذا بطفل من الاطفال يأخذ اللوحة المكتوب عليها (حكيم القرية ) والتي كانت معلقة على بيت الحكيم ثم ذهب ووضعها على بيت النجار ومن وقتها والنجار ينادى بين الناس بأنه (حكيم القرية )